من تراب الطريق (1177)
الإمام الطيب والقول الطيب(9)
نشر بجريدة المال الأحد 12/9/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
النقطة التى أسلفناها بالحديث السابق , هى الفيصل ما بين عقيدة أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث , وبين غيرهم ممن يعتبرون الأعمال داخلة فى حقيقة الإيمان , مقررين أن من يرتكب كبيرة قد زال ايمانه , وأصبح كافرًا خارجًا عن الملة , وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لسفك الدماء وسلب الأموال .
وهذه النقطة , هى الفيصل أيضًا بين عقيدة الجمهور , وبين فرقة المعتزلة , التى تبنت أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا وليس بكافر , وإنما هو فى « منزلة بين المنزلتين » .
ومن المؤسف أن الغالين من أصحاب المذاهب المتشددة , أو المتطرفة , لم يتوقفوا عند اعتقادهم المغلوط , بل طفقوا ينشرونه ويرجون له بكل السبل .
هنا يدعو الامام الأكبر أحمد الطيب إلى وجوب عودة الوعى بمذهب الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث , لوقف هذا الإنزلاق الخطير على الإسلام وعلى الأمة الإسلامية .
القاعدة الذهبية فى مذهب الأشاعرة , أنه « لا يخرجك من الإيمان إلى جحد ما أدخلك فيه » .
هذا المذهب تعضده آيات القرآن الحكيم , وتشهد له بانفكاك حقيقة الإيمان عن حقيقة العمل .
فقد عطف القرآن « العمل » على « الإيمان » عطف مغايرة فى قوله :
« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ َ» (البقرة 277 , و فى مواضع آخرى عديدة ) .
هذا العطف بين الإيمان , وبين عمل الصالحات , عطف مغايرة , يبرز أن الأعمال من واجبات الإيمان , وليست الإيمان ذاته.
كما أثبتَ فى آياتٍ كثيرةٍ بقاءَ الإيمانِ فى قلبِ المسلمِ مع اقترافِه المعاصى والذُّنوب: « وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا»
( الحجرات: 9 )، ومَعلومٌ أنَّ القتلَ من أكبر الكبائرِ، ومع ذلك سَمَّى اللهُ القاتلينَ من الجانبَيْن مُؤمنِين.
وأيضًا: « كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ »
( الأنفال: 5-6 ) ، فقد وصَف اللهُ أصحابَ النبى عليه الصلاة والسلام بصفاتٍ هى من الكبائر ، وهى كراهيةُ الجهادِمعه ومُجادلتُهم إيَّاه ، رغم تَبيُّن الحقِّ فى أذهانِهم ، ومع ذلك سمَّاهم القُرآن « فريقًا من المؤمنين».
ومن هذه الشَّواهِدِ القُرآنيَّةِ قولُه تعالى: « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ »
( النحل: 106) ، ومنها: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» (الصف: 2-3 )، ومنها: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ» ( التوبة _38) ، إلى شَواهدَ أخرى كثيرةٍ تُخاطِب مُرتكِبى المعاصى والذنوب بـ« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ » وتَصِفُهم بالإيمانِ؛ ممَّا يقطَعُ بيقين أنَّ مرتكب الكبيرة مؤمنٌ ولا يَجوزُ تكفيرُه، اللهمَّ إلَّا إذا ارتَكَب كبيرةَ الشِّرك وأنكر ما عُلِم من الدِّينِ بالضرورةِ، فهذا هو الكافرُ لجحودِه وإنكارِه.
هذا المذهب الأشعرى – وهو مذهب الجمهور – هو الذى يُعبِّرُ عن رَجاءِ الناس ورَجاءِ العصاة والمؤمنين فى عَفوِ الله ومغفرتِه ورحمتِه، وهو الذى يَعكِسُ يُسرَ هذا الدِّين وحُنُوَّه على أتباعِه ورأفتَه بهم…
من يقرأ مقدمة « مقالات الإسلاميين » للإمام الأشعرى , يعجب للسماحة الإسلامية المدهشة التى تتبدى بين حنايا هذا الإمام الجليل . ويرى جمع الفكرة فى عبارة واحدة
« من مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين » .
يختار الدكتور الطيب من هذه المقدمة الرائعة , قول الإمام الأشعرى :
« اختَلفَ الناسُ بعدَ نبيِّهم عليه الصلاة والسلام فى أشياءَ كثيرةٍ، ضَلَّل فيها بعضُهم بعضًا، وبَرِئَ بعضُهم من بعضٍ، فصاروا فِرَقًا مُتبايِنين، وأحزابًا مُشتَّتِين، إلا أنَّ الإسلامَ يَجمَعُهم ويَشتَمِلُ عليهم» . وهذا نصٌ جدير بأن يضعَه كل عالم نصب عينيه وهو ينظر إلى ما أصاب المسلمين اليوم من فرقة واختلاف.
هذا المذهبُ الأشعرى أسهَمَ بقُوَّةٍ فى حَقنِ دِماء المُسلِمين وصِيانةِ أموالهم وأعراضِهم ، التى حرَّمها النبى عليه الصلاة والسلام فى قَواطِعَ صريحةٍ بقوله: « كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ : دمُه ومالُه وعِرضُه » , وقوله « من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذى له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله فى ذمته » وقوله للناس فى حجة الوداع : « إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يَوْمِكم هذا » ، وهو نفسه المذهبُ ذو النَّظرةِ المُتَوازِنة للإنسان الخَطَّاء بطَبعِه، كما نبَّه إليه النبى عليه الصلاة والسلام فى قولِه:« كلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابون » .
قضيَّةَ التكفيرِ لا يَملِكُها أحدٌ ، ولا هيئة ولا جماعة ولا تنظيم، وإنما هى تسمية شرعية بحتة ، ولها من الضوابط وتوفر الشروط وانتفاء الموانع ما يحصرها فى أضيق الدوائر والحدود التى تدرأ بالشبهات ، ثم هى منوطة بالقضاء وبأولى الأمر، ولا يُسارِع إليها إلا الجهلةُ من الناسِ كما يقولُ حُجَّةُ الإسلامِ الإمامُ الغزاليُّ ، الذى يُقرِّرُ: « إنَّ الخطأ فى تَرْكِ كفر ألفِ كافرٍ أهوَنُ من الخطَأ فى سَفْكِ مِحجَمةٍ من دَمِ مُسلِمٍ ».
كما يَذهَبُ الإمامُ محمد عبده إلى أنَّ البُعدَ عن التَّكفِير أصلٌ من أصولِ الأحكام فى الإسلامِ ، ويقرر أنَّه: « إذا صدَر قولٌ من قائلٍ يَحتَمِلُ الكُفرَ من مائةِ وجهٍ ، ويَحتَمِلُ الإيمانَ من وجهٍ واحدٍ، حُمِلَ على الإيمانِ ، ولا يجوزُ حَملُه على الكُفرِ » .
وغنى عن البيان , أن الأزهر الشريف وهو يرفع راية « جمع الكلمة » بين المسلمين
لا يفرق بين مذهب وآخر فى مقاومة موجات الإلحاد والتغريب والإفساد , ولا يدخر جهدًا فى مقاومة الإنحراف والتكفير المرفوض من جماهير الأمة الإسلامية قديمًا وحديثًا , وفى المستقبل بمشيئة الله .