من تراب الطريق (1166)
من تراب الطريق (1166)
نشر بجريدة المال الخميس 26/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
دريني خشبة من تاني (2)
إلمام المخرج المسرحي بذلك كله، يجب أن يكون أعرض.. فعلى أكتافه يقوم تجسيد كافة الأدوار والعناصر المسرحية، فهو المهندس المسرحي الأكبر الذي يرسم كل شيء، ويضع لكل حركة تقديرها ووسائلها ومصاحباتها ومؤثراتها، ويخلق الجو الذي تعيش فيه كلها.. المنصة، صالة المتفرجين، ومضات الإضاءة، الديكور، هندسة الصوت، المؤثرات.. وغير ذلك كثير يحتاج من المخرج أن يكون على إلمام بتطور فنون المسرح في كل ذلك عبر عصور التاريخ المسرحي.. كذلك مساعدوه وأعوانه حتى عمال النظافة.. فكل واحد من هذا العالم المشغول بتجسيد وتهيئة المسرحية، ينبغي أن يعرف صلة التمثيل بالمنظر، والمنظر بالإضاءة، وصلة الإضاءة والمنظر والتمثيل ـ بخلق المزاج النفسي والجو العام.. وصلة الحركة التي تجرى وسط هذا كله بهذا كله.
كاتب المسرح لا يمكن أن ينهض بكتابة المسرحية ما لم يكن ملما بكل هذه العناصر والفنون.. لن يكون بمستطاعه أن يصل بغير ذلك إلى روح الفن المسرحي المتكامل، ولا إلى كتابة المسرحية الفنية والمتكاملة التي يربط التناسب بين أجزائها.. لذلك كان أعظم كتاب المسرح هم الذين شبوا في أكنافه وتربوا في أحضانه ونهلوا مباشرة من موارده.. ويكفيك أن تتابع اهتمامات توفيق الحكيم المبكرة بكواليس المسرح، أو نشأة بديع خيري وأترابه في أكناف المسرح، لتقتنع بأن الكاتب المسرحي هو ابن للتربة المسرحية إن جاز التعبير.
لا يكتب الكاتب المسرحي منفصلا عن عناصر المسرح وأطرافه وإمكانياته.. تجد في حسبانه كل صغيرة وكبيرة مما يمكن أو لا يمكن تنفيذه على منصة المسرح.. الكل حاضر في وجدانه وهو يخط كل فصل وكل مشهد: المنصة، الديكور، الإضاءة، المؤثرات، الممثل، المصور، المصمم، المهندس، الملقن..
في إحاطة شاملة قدم كتاب « تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة » ـــ موكبا حاشدا لتطور المسرحية والتمثيل والإخراج والمناظر المسرحية، وعن تطور المذاهب الفنية والفلسفية المختلفة التي طرأت على هذا كله عبر ثلاثة آلاف سنة، رابطا بين هذه العناصر ربطا شائقا يضم عشرات الصور والرسوم التي تزيد البحث بيانا وتقدم صورة حية لما حفل به هذا التاريخ الحاشد الضخم من أحداث وتطورات، عبر الزمان والمكان.
خذ الممثل مثلا.. هذا الوسيط الإنساني الذي تحدثنا المسرحية بلسانه، والذي يضفي على الفن نضرته وعمقه وإنسانيته.. إن تاريخ الممثل في العمل المسرحي شاهد على كونه جسرا عبر بالعمل المسرحي من ماضيه السحيق إلى الحاضر، وقصته في التمثيل توضح حقائق تنطبق على جميع الفنون المسرحية، ويستشهد تشينى على ذلك بالمحاولات التي بلغت حد المروق عن الطرق التقليدية للاتجاه نحو المذهب الطبيعي، والتي يلاحظها المتابع للمسرح اليوناني كما يلاحظها في غيره.
ففي بلاد اليونان كان فن التمثيل المسرحي يتألف من فخامة آسرة في الإشارة والحركة مضافاً إليها جمال النطق والإلقاء الصحيح السليم، مصحوبا بالتأني والقوة.. وعلى مسرح واسع شاسع، يختبئ وجه الممثل تحت قناع فضلا عن الملابس الفضفاضة الثقيلة والأحذية ذات النعال الكبيرة.
ومع تغير هذه الأحوال، ومجيء الأنـوار الكهربائية آخر الأمر، بدأ التمثيل المسرحي يهجر شيئا فشيئا هذه الطرق التقليدية، ويقبل على الأسلوب الطبيعي، ويترك التصوير الزائف المصطنع وفن المحاكاة ـ حتى وصل إلى التصوير الفوتوغرافي وصار أكثر إنسانية وأقرب إلى الواقع وأشبه بالحياة المألوفة في زمانه.
كان هذا هو أيضا شأن المسرحية. كانت هناك ذات الهوة التي تفصل بين التمثيلية بأعماقها العاطفية التي يمكن أن ينتهي مداها، وشعرها الجميل الشائق، ومن قبله الرقص والإنشاد البدائيان، واللذان كانا الخطوة الأولى نحو الفنون والبذرة الأولى للمسرح ـ وبين تمثيليات زماننا بكل مقاييسها ومعاييرها الحالية.
من نصف قرن عشت نشوة غامرة مع صفحات هذا الكتاب المشبع في كافة فنون المسرح، ولم أعثر ـــ ولعله لم يصادفني ـــ على ترجمة المجلد الثاني لإتمام هذا العمل الجليل الذي أنجزه الأستاذ درينى خشبة من أكثر من نصف قرن، استكمالا لهذه المهمة التي تسد فراغاً مطلوبا ملؤه في مكتبتنا المسرحية !