من تراب الطريق (1159)

من تراب الطريق (1159)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 17/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

تقادير المصادفات ! (2)

لم يصدق الأب أن ابنته ماتت بيده، فطفق يحتضنها وينكفئ عليها ويبكى، ولم يفصله ويرفعه عن جثمانها المسجى إلاَّ أذرع الشرطة التي قدمت إثر بلاغٍ سريع، لتأخذ الأب إلى قسم الشرطة، وترسل الجثمان إلى المشرحة للبدء في إجراءات التشريح بأمر النيابة العامة التي رفع إليها الأمر !

كانت مصيبة الرجل وأسرته مصيبتين بل ثلاثا: الفضيحة المرة، ووفاة الابنة، واتهام الأب بقتلها..

اتهمته النيابة العامة بجناية ضرب ابنته ضرباً أفضى إلى موتها.. وقفت أدافع عنه أمام محكمة الجنايات تقديرًا لمحنته، ولكن ماذا عساي أن أقول: إن الجاني هو المجني عليه.. هكذا قلت لهيئة المحكمة.. لقد اجتمعت فيه الصفتان.. إن وجيعته في مصرع فلذة كبده وضناه، أشد وطأة مما يتعرض له من عقاب عن جناية ضربها ضرباً وإن لم يقصد به قتلاً إلاَّ أنه أفضى إلى موتها.. إن السجن مهما طال، مآله إلى نهاية يخرج بعدها من أسر الأسوار إلى أسر نفسه التي سقطت إلى القاع وتبعثرت أشتاتا، لا تفارقها صورة ابنته وهي تتهاوى قتيلة بين يديه، ولا استغاثتها به أن يرحمها، ولا أنينها ودموعها التي لم يرها إلاَّ وهي جثة هامدة يحاول أن يرد إليها الروح دون جدوى.. هذه الصورة صارت ملازمةً له في صحوه وفي منامه وفي أحلامه وكـوابيسه. إن هذا الجاني، أو المجني عليه، قد سبق العقاب إليه قبـل العـقاب الذي سوف تنزله به الأب المحكمة.. إن ما يعانيه أشد وقعًا ووجيعةً وألما من أي عقوبة.. قلت للمحكمة: فماذا أنتم فاعلون بهذا المسكين الذي أجرم بالصدفة وقتل ابنته بالصدفة، وروع بوفاتها بين يديه في لحظة مشئومة وكان قبلها بلحظة أبًا سويًا مستورًا.. يتمنى لهذه الابنة المسكينة كل ما يتمناه الأب لفلذة كبده من نجاح وغبطة وسعادة وطول حياة !

أذكر أن المحكمة يومها وتضعضعه، فاستعملت سلطتها في الرأفة وإيقاف التنفيذ بمقتضى المادتين 17، 55 من قانون العقوبات، ونزلت بالعقوبة درجتين إلى الحبس سنة مع إيقاف التنفيذ !!!

استقبل الأب المكلوم في ابنته هذا الحكم واجماً ساهماً، لم تبد عليه أي فرحة بهذه الرأفة الشاملة التي استعملتها معه المحكمة بغير حدود، ومشى منصرفا وأسرته من حوله.. يلملم نفسه مطأطئ الرأس وعلى أسارير وجهه ألم الذكرى التي أوقن أنها لن تفارقه ما بقى له من عمر بحساب السنين !

حياة الآدمي مهما بلغ لديه الحدس، أو ملكة التوقع، مليئة باحتمالات، وأزمة المصادفة أيا كانت، أنها تأتى أو تداهم على غير توقع، والتوقع هو الذي يهيئ الاستعداد والتأهب وإجراء الحسابات واتخاذ التدابير، بينما المفاجأة التي تصاحب المصادفات، لا تتيح لمتلقيها شيئا من ذلك فُيؤخذ على غرة.. وليست المصادفات كلها من نوع واحد أو على وتيرة طيبة.. فهناك مصادفات مرة، وهناك منها ما يبلغ حدّ الفواجع , والحوادث بعامة تأتى على غير اتفاق وبغير تنبيه سابق، فيشب الحريق فجأة، أو تنحرف السيارة فجأة أو يداهم التسمم بغتة، أو ينهار العقار الجديد بلا مقدمات !

إن المجاهيل والاحتمالات والمصادفات التي تواجه الآدمي منذ ميلاده حتى وفاته، توجب عليه أن يتخذ من تجاربه شاحنا لعقله وملكاته.. أن يمعن التفكر والتأمل، وأن يثرى ملكة التوقع لديه، ليكون أقدر على مواجهة مخبوءات المقادير وشتى الاحتمالات والمصادفات.. وليكون أكثر فهما للحياة وسننها، وأعمق رؤية لما يجرى فيها، وأصوب وأعقل نظراً وتصرفاً فيما يداهمه من تقادير المصادفات.. فالاحتمالات وأحوالها لن تنتهي من عالم الآدمي، ولن يكون عنده « مفاتح الغيب ».. ما يملكه هو أن يعمل عقله وفكره، ونظره وإمعانه، ليكون أقرب إلى الفهم والتوقع وحسن التصرف، وأجدر بالحياة التي وهبها الخالق عز وجل له ولكافة الأحياء .

زر الذهاب إلى الأعلى