من تراب الطريق (1158)
من تراب الطريق (1158)
نشر بجريدة المال الإثنين 16/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
تقادير المصادفات ! (1)
لا تخلو حياة الآدمي، مهما كان انتباهه وتيقظه وتدبيره وحرصه واحتياطه، من دور قليل أو غير قليل، للمصادفات في حياته.. تأتى أو تأتيه على غير موعد ولا توقع، يحمل بعضها رياحا طيبة، قيل فيها بالأمثال: « يا محاسن الصدف ».. « رب صدفة خير من ألف ميعاد ».. ويحمل بعضها نُذْرا غير طيبة، وهذه وتلك تلعب في حياة الآدمي دوراً إيجابيا أو سلبيا، وقد يخرج بعضها عن نطاق القدرة الفاعلة على التعامل معها، فتلقى برياحها الطيبة أو غير الطيبة على الحاضر وربما على المستقبل.
رأيت على مدار سنوات طويلة، غير قليل من الأسوياء الذين التزموا الجد والاستقامة والحرص والتدبير والحذر والاحتياط، ومع ذلك دهمتهم مصادفات من فعل المقادير دفعت بهم دفعاً، على غير إرادة معدودة منهم ـ إلى مواطن الخطأ أو الزلل.. درجنا في علم النفس، وفي علم الإجرام إذا دخل الخطأ في حومة الجريمة ـ على أن نطلق عليهم مخطئي الصدفة، أو مجرمي الصدفة بحسب نوع وقدر الزلل !
رأيت شبانا أسوياء، دفعهم التطلع إلى تدبير مستقبلهم، إلى التهرب من التجنيد، وهو جريمة.. وانزلق منهم من قَرَن ذلك باصطناع محرر أو محررات مزورة للإعفاء من التجنيد، أو للحصول على تصريح بالسفر إلى الخارج، فيجد نفسه على غير التفات ودون جنوح إجرامي متأصل فيه ـ في حومة الجريمة.. متهما أمام محكمة الجنايات أو المحكمة العسكرية العليا بجنايات التزوير في محررات رسمية ! ولو انتزعت هذه ” السقطة ” واستبعدت من سجل حياته، لوجدته شخصا سويا مسالما لا يجنح إلى الجرم ولا يحبه، ولكن دُفع إليه دفعاً بعير تحسب، لمصادفة طلبه لتجنيدٍ قد لا يحل دوره على غيره، أو دُعى إليه لأن أخاه الأصغر بلغ سن الرشد فخرج هو بذلك من باب « الإعالة » كسبب للإعفاء أو التأجيل، فلم يحسن التعامل مع الموقف، وساقته المقادير إلى « وهدة » الجريمة !
رأيت عبر نصف قرن، كثيرا من الحادثات التي طوى الخطأ فيها على محض مصادفات لو لم تقع لما وقع الخطأ أو الجرم. ولكنى أريد أن أحدثك اليوم عن مأساة إنسانية لأب طيب مستور الحال، يذوب حبا ووفاءً ورعايةً لأسرته، ويلتزم جادة الطريق لا يحيد عنه يمينا أو يساراً، يرعى الله في عمله وفي تربية أولاده، ويكد ويكدح ليوفر لهم حياةً كريمة ومستقبلا واعداً.. لولا مصادفة لم يحسب حسابها، عصفت بحياته عصفا !!
في يوم مشئوم، وقد أقلقه حال ابنته الأثيرة لديه، اصطحبها وأمها ليعرضاها على طبيب لتشخيص ما تشكو منه وموافاتها بما يلزمها مـن علاج.. جلس والأم يترقبان نتيجة فحص الطبيب، واستبشرا خيراً حين التفت الطبيب إليهما ببسمة مبهجة، ظنًا أنها تحمل بشارة السلامة من المرض، ولكنها نزلت عليهما كالصاعقة حين بشرهما بأن ابنتهما حامل.. بذلا جهدًا جهيدًا لإخفاء أثر المفاجأة المروعة عليهما، فالبنت تلميذة ولم تتزوج، والحمل الذي يبشرهما الطبيب به « سفاح » حملت بــه البنت في الحرام.. متى كان ذلك وأين وقع ومع من ؟! ظلت هذه الأسئلة الحائرة الممضة تعصف بالأب والأم وتهز كيانهما وتبعثر نفسيهما إلى أشلاء ممزقة تقتلها الصدمة، وتهدها الفاجعة، وتحاصرها الحيرة من كل جانب!
ما إن توارى الأب والأم مع ابنتهما وراء باب المسكن، حتى انفجرا يسألانها: من الفاعل، وأين ومتى وكيف ؟ والفتاة مرعوبة ترتجف من الذعر والخوف وهول انكشاف أمرها لأبيها وأمها بعد أن حاولت مستطاعها أن تخفيه عساها تصل إلى حل مع من اغتال عذريتها وترك لها الجنين وهرب لا يبالى بما سوف تواجهه المسكينة، ومع ذلك ها هي رغم محنتها وخيبة أملها فيه ـ لا تزال تمنى النفس باستيقاظ ضميره وتقدمه لإصلاح ما وقعا فيه، وهي تخشى أن تصرح لأبيها باسمه مخافة أن يقتله أو يؤذيه فيضيع أملها الأخير في جبر ما انكسر.. وكلما لاذت البنت بالصمت، كلما زاد اشتعال غضب الأب.. تخيل أنه يستطيع أن يدفعها للاعتراف وكشف المخبوء إذا انفرد بها وأغراها بالأمان لتفصح له عما تكتمه. أخذها إلى إحدى الغرف وأغلق عليهما الباب، وجعل يطمئنها ويمنيها.. ولكن هيهات أن تفوه البنت المذعورة بكلمة وقد انعقد لسانها من الخوف والهلع.. وكلما استمر صمتها ازداد سعير غضب أبيها، فانتقل من الإغراء والترغيب إلى الترهيب، ومن الترهيب إلى الضرب، وظل الضرب يتصاعد ويتصاعد في موجات مجنونة ذهب عنها العقل، وجعلت الصفعات ثم اللكمات تضرب المسكينة في كل اتجاه، والفتاة تتهاوى أمام عين أبيها وهو لا يرى أنها تنهار، فيمعن في الضرب المجنون أملاً في معرفة الفاعل لإنقاذ شرفه المثلوم، وظل يضرب ويضرب ولم يفق إلا وابنته قد سقطت بين يديه جثةً هامدة !!!