من تراب الطريق (1157)

من تراب الطريق (1157)

نشر بجريدة المال الأحد 15/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لماذا أقاتل بالكلمات؟

عشت وأعيش مهمومًا بسؤال يلاحقني ويلح علىّ، ما جدوى الكلمات.. هل لها قيمة في ذاتها، أم قيمتها فيما تدلى به وتعبر عنه وتحدثه من تأثير، وهل تنفصم القيمة ـ إن كانت ـ عن الفعل والعمل والسلوك.

كانت الكلمة ولا تزال عدتي، في طلب العلم وتحصيله، وفي التعبير عما أشاء كتابةً وشفاهةً، وفي عملي بالمحاماة، وشغفي بالفكر والأدب، وأداتي للكتابة والتأليف.

ولكن ما قيمة الكلمة المجردة إذا انفصمت عن الفعل.. ألم يحذرنا القرآن الكريم من ذلك وقال لنا: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ » ( الصف 2، 3 ). ألم تتعدد أحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحث على الربط بين الكلمة والفعل، وأن تكون الأفعال مصداقًا للكلمات، وحَذَّرَ من ابتعاد ما يقال عما يجب أن يُعمل، وعن الرياء الذي لا يصادقه عمل !

أرقٌ ملازم

فيما عدا سبعة عشر عامًا أمضيتها ضابطًا عاملاً بالقضاء العسكري بالقوات المسلحـة، العمل عدتي كما الكلمة ـ شاء نصيبي أن أُحرم من أي عمل تنفيذي في بلادي، بينما أحمل في جوانحي حبًّا جارفًا لوطني، وأفكارًا له صقلتها السنين، واهتمامًا حتى النخـاع بهمومـه ومعضلاته، وآماله وقضاياه، ورغبةً قويةً لم تفارقني قط في أن أبذل له قصارى مستطاعي.

ولكن؛ ماذا أفعل وأنا محروم من الفعل، ولم تبق لي سوى الكلمات.. ولكن ما قيمة الكلمة بغير فعل؟! لا أقصد الفعل الشخصي في الحياة بما يتفق وما لا يتفق مع الكلمة.. ليس هذا ما أعنيه بالأرق الملازم، فقد حاولت بكل مستطاعي أن ألتزم بكل ما دعوت إليه من قيم ومبادئ وأفكار، ولكن أرقني ولا يزال حرماني من النشاط المادي الذي يحرك الأشياء ويتصل بالنتائج اتصال السبب بالمسبب.. كنت موصولاً في القوات المسلحة بهذا النشاط الفاعل، لا يشغلني قط أنني قاعد، أو يمكن أن أكون قاعدًا..

هذه السببية ينعم بها كل صاحب قرار ودور، وينعم بها كل صاحب صنعة أو عمل يؤدى بنشاط مادي.. السببية أو الرباط الذي يشعر به المهندس والبنّاء والرسام والنحّات، والزارع والصانع، والفلاح والعامل، والخزّاف والنجار والحداد والأستورجي والزجَّاج.. كل واحد من هؤلاء يرى ثمرة قراره، أو فعله أو نشاطه أو عمله الذي يواليه تنفيذًا ومتابعةً وتخليقًا ومراجعةً وضبطًا.

هل أغنتني الكتابة والمحاماة ؟!

ربما كان الأرق أقل وقعًا في المحاماة، فأنت فيها تقوم بما يشبه الفعل بالكلمة بالمرافعات والمذكرات، وقد تثمر حكمًا ببراءة برئ، أو بإنصاف مظلوم، أو إحقاق حق.

بيد أن هذا في الواقع سراب ! لأن المحامي لا يقضى ولا يحكم، والحكم معلق بفعل وقضاء غيره.

يبدو هذا التساؤل أكثر إلحاحًا في الفكر والأدب والكتابة.. فهذا كله قد يتصـل وقـد لا يتصل بدوائر المخاطبين، وهو إن اتصل بمتلقين لا يبدو له لدى المفكر أو الأديب أو الكاتب ـ جوابٌ محسوس، حتى وإن حدث الأثر.. فهو لا يبين ـ إن كان ـ إلاَّ مع توالى السنين، وكم من رسام ونحّات ومفكر وفيلسوف وأديب وكاتب ـ قضى نحبه دون أن يرى أي أثرٍ لعمله.. وربما رأى عكس مراده وغايته وما يصبو إليه.. ترى ذلك قد حدث مع عباقرة وأفذاذ في التاريخ، ناهيك بغيرهم ممن لم يبلغوا هذه الدرجة !

إن كلاًّ من هؤلاء معزول عن ناتج عمله، هل أضاء أم لم يضئ، أصلح أم لم يصلح، حرك السواكن أم لم يحرك، غيّر وبدّل أم قوبل بالإعراض وذهب أدراج الرياح، دون أن يعبأ به أو يلتفت إليه أحد !!

صعب جدًّا، بل ربما مرير، أن تستمر في القول والكتابة وأنت مفصوم عن دنيا المتلقين، أو محروم من أن تُتَرْجَم كلماتك إلى أفعال، وأن تؤثر فيما تتغيّا التأثير فيه.. أن تكون حياتك كلامًا في كلام في كلام !!

إن تلال الكلمات لا تغير سياسة خاطئة تجرى، أو قرارًا غير صائب يوضع موضع التنفيذ، وهى لا تبنى مصنعًا، ولا تقيم منشأة، ولا تزرع أرضًا.. قصارى ما يتمناه صاحبها أن تُسمع وتُحدث أثرًا !

لماذا إذن القتال بالكلمات ؟!

الكلمة هي إذن النافذة الباقية للإسهام في نهر الحياة، مكتوبة بالقلم، أم مشافهة باللسان.

بدا لي أن ارتفاع نبرة الكلمة، والقتال بالكلمات، رد فعل نفسى، أو هو إحساس داخلي يتغيّا ـ بالوعى أو باللاوعي ـ أن يكون للكلمات دورٌ لا يحرمها من « السببية » ويقيها أو يقي صاحبها من الإحساس باللا جدوى !

قاتلت بالكلمة في المحاماة !

وقاتلت بالكلمة في الأحاديث، وفي المقالات، وفي المؤلفات !

لا أملك قرارًا، ولا أداةً، ولا سلاحًا، ولا منفذًا إلاَّ الكلمة.. هي عدتي ووسيلتي ولا شىء سواها.. بها عبرت وقاتلت وسأبقى أقاتل بها ما بقى لدىّ ما أقوله.

ولكن يبدو أن هذا القتال بالكلمات، هو بدوره سراب، محروم من رؤية أي أثر ملموس، أو ناتج مأمول !!

فما جدوى الكلمات ؟!!!

زر الذهاب إلى الأعلى