من تراب الطريق (1152)
من تراب الطريق (1152)
نشر بجريدة المال الخميس 5/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
اللي الأوطان بتجمعهم
عمر الأديان ما تفرقهم !
من قرابة قرن، غنى سيد درويش للناس: « اللي الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم » !.. هذا الذي صدح به سيد درويش وتغناه الناس عنه، قد صار في زماننا إلى
« حبة فوق وحبه تحت » !.. هذا محض مثال لهبوط المستوى وانحدار اللغة وتفاهة المعنى وتوارى المواهب ومعها الروح وعبقرية الانصهار والتعبير والامتزاج بالوطن وقضاياه !
كان من وراء سيد درويش جنود مجهولون أو معلومون من شعراء ومؤلفي الأغاني.. هم الفرسان أصحاب الكلمات التي تعانقت معها عبقرية سيد درويش الموسيقية.. حكى لنا الدكتور محمود الحفني أول لقاء بين سيد درويش وبديع خيرى الذي صار بعد ذلك مركز تموين زجلي لأغاني سيد درويش، وكيف دار لقاؤهما الأول الذي انضم إليه نجيب الريحاني حول مقطوعة بديع خيرى: « مصر والسودان » أو « دنجا دنجا دنجا ».. فوجئ بديع بكلماتها تنساب بألحان سيد درويش..
ما فيش هاجة اسمه مصري: ولا هاجة اسمه سوداني. نهر النيل راسه في ناهية: رجليه في الناهية التانى. فوجانى يروهوا في داهية: إذا كان يسيبوا التهتانى.
الوعى الذي فجر عبقرية سيد درويش ودفعه إلى صياغة لحن « اللي الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم، هو الذي جعل الشاعر إسماعيل صبري باشا يبادر فينشد في أعقاب اغتيال بطرس باشا غالى: دين عيسى فيكم ودين أخيه: أحمد يأمراننا بالإخاء. مصر أنتم ونحن إلاّ إذا:قامت بتفريقنا دواعى الشقـاء. مصر ملك لنا إذا ما تماسكنا: وإلاّ فمصر للغرباء !
هل كان محض صدفة أن يبرم في 1/8/1923 « عقد أغاني الشعب » بين الشيخ سيد درويش، والمهندس المسيحي إميل عريان مخترع البيانو الشرقي، وأن يتضمن تأسيسهما معا شركة مشتركة باسم « أغاني الشعب » لتلحين وإنتاج وتصريف وتوزيع هذه الأغاني بجهد مشترك التأمت فيه عبقرية سيد درويش الموسيقية مع الخبرات الفنية لإميل عريان.. وأن يرد بالعقد التزام الشيخ سيد درويش بأن يتحاشى استعمال ما يسمونه « البمب » في مفتاحfa كما هو الحاصل في جميع الأدوار المدونة بمعرفة ماتيلده عبد المسيح ومنصور أفندي عوض وقسطندى أفندي منسى ؟!
أين نحن الآن من تلاقى الهلال والصليب الذي وعاه أسلافنا في الفنون والمسرات، وفي المحـن والأزمات.. أين الإسماح الذي لولاه لما قدمت سينمائيا قصة البوسطجى لأدبينا الفذ يحيى حقى مع ما تناولته من موضوع بالغ الحساسية في قرية كوم النحل من أعمال مديرية أسيوط بالصعيد، حول قصة حب بين جميلة إبنة المعلم سلامة القبطى الأرثوذكسى وخليل إبراهيم المدرس البروتستانتى، وما أثمرته هفوة اجتبا فيها الشباب جزيته من الفتى والفتاة وتعقدت خيوطها على تداعيات فضول البوسطجى عباس !
ظني أنه لم يعد جائزا الخلود إلى ما كنا عليه، ولا الاتكال على لطف المقادير. ناديت من عامين ( أهرام 27/4/2006 ) بحاجتنا إلى إنشاء آلية دائمة ومتفرغة لرعاية الجماعة الوطنية، تستطيع بتجردها وخبرتها، وفي الاجتماعات المغلقة بعيدا عن إثارات الاحتقان، أن تناقش كل الأمور بصراحة بلا حساسيات، وأن تضع الحلول الموضوعية، وأن تتواصل تواصلا مستمرا مع كافة الجهات المعنية، لتجفيف أسباب الاحتقان، وتفتيح العقول والصدور في إطار لجنة وطنية تمتد عناصرها بهذه الروح إلى كافة قطاعات وربوع الوطن !