من تراب الطريق (1151)
من تراب الطريق (1151)
نشر بجريدة المال الأربعاء 4/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
صناعة القبح !
من المؤسف أن يشيع ويستشرى القبح ـ المادي والمعنوي ـ حتى يصير صناعة، لا يلتفت صناعها إلى ما فيها من دمامة !
لا تدري حين تجيل نظرك في ربوع بلادنا، وفي أحوالها، كيف ومتى فارقنا صناعة الجمال التي بدأ أسلافنا في الاهتمام بها من زمن، بتجميل ما استطاعوا تجميله في البلدان والأحياء والمرافق والحدائق، برغم الاحتلال وضيق الإمكانيات، مع اهتمام إلى آخر مدى باحتضان القيم النبيلة وبثها للأجيال في الأسر وفي المدارس والمعاهد والمعامل والمصانع والجامعات.. لا أدرى متى وكيف جعل « القبح » يتسلل إلى بلادنا وحياتنا.. فحب الجمال طبيعة إنسانية، ومجافاة القبح طبع إنساني أيضا.. ربما بدأ الداء الذي استشرى ـ بفقدان الانتباه والإحساس بالقبح الذي جعل يتسلل شيئا فشيئا حتى صار واقعاً ضخما يكاد يطاول الجبال، فلما طال التعايش معه حلت العادة محل النفور، وصرنا لا نحسه وربما قبلناه واستسغناه وامتصصناه وعدنا فأفرزناه.
ربما كان القبح المادي هو الأسهل في التعامل معه وتفادى أسبابه وعلاجه، فلا عليك إلاّ أن تحيي القيم الجمالية التي كانت تدرس في المدارس وتطبع على الأغلفة الخلفية للكراسات وتلقى مع الأناشيد وتحية العلم في طابور الصباح، وأن تؤدى الأجهزة المحلية التي ترهلت وفارقت من زمن بعيد ما كانت تنهض به في صمت وبلا افتعال ولا ضجيج: الشئون البلدية والقروية، وأن نهتم ببث القيم الجمالية في إصداراتنا الإعلامية والثقافية، وتكريسها في عاداتنا السلوكية.. وحماية الأماكن ـ النادرة ! التي لا زالت تحتفظ بجمالها أو ببعض جمالها الذي كان، حمايتها من زحف القبح وأكوام القمامة والقاذورات، وضمان متابعة جادة للسلوك الذي يشذ عما تستلزمه المحافظة على القيم الجمالية ونظافة بلادنا.
على أن القبح المعنوي آفته وأمره أثقل وأمض.. لا يتوقف هذا القبح عند محض « الصور » المرئية أو المسموعة التي تطالع عيوننا أو تصافح آذاننا دون أن تحرك فينا نفورا حين نراها في الفوضى والقذارة وفي العشوائيات والطرقات والمرافق ومقالب القمامة وغيرها، وإنما ما أعنيه بالقبح المعنوي هو ذلك المتمثل في مجافاة قيم الصدق والبر والأمانة والزهد والوقار والإخلاص والجدية والطهر والعفاف والاستقامة والشفافية.. هو ذلك القبح المتمثل في انحراف السلوك وبيع الذات والنفاق والرياء والتزلف والمداهنة.. في إنكار الحق والتيه بالقوة والسلطة والجاه، والاستقواء على الفقراء والضعفاء.. في استسهال الكذب والتفاهة والسطحية والمواراة والفهلوة والديماجوجية والانحصار المريض في انحيازات الذات وفي شهوات ومآرب النفس.. في انعدام الإحساس بالأغيار والافتئات عليهم.. في اختلال لغة الخطاب وتفشى العربدة والانتهازية وضلال الكلمة والجري وراء أطماع الذات والانتصار لها مهما جمحت أو اختلت ولو كان من بعدها الطوفان !
حين ذلك يتسمم الهواء نفسه، ويستحيل على الناس أن يتنفسوا هواءً نقياً..
وتخيم مظاهر القبح وسُحُبه وأنفاسه على الحياة، فتضطرب الرؤية مع الإحساس الممض بالاختناق !
قد لا يُعنى مرضى القبح، وهذا هو الغالب، بعلاجه فيهم، ولكن الأدهى أن تفوت ملاحظته والالتفات الجاد إليه ـ على المتعاملين معهم أو المحتكين بهم.. مؤدى ذلك أن يصل الانحراف إلى غايته، وأن يحقق بالخديعة والمكر والوصولية والمداهنة، ما لا يتحقق للفضيلة ومكارم الأخلاق والسلوك.. سيادة القبح ونضوب القدرة على ملاحظته، نذير شؤم يعدم الأمل في الإصلاح الذي يعتبر الإنسان ذاته وسيلته وأداته الفاعلة !
واستساغة القبح، وعدم الالتفات إليه، هبوط في الطاقة الروحية للآدمي، يتسلل تدريجيا وبحكم الاعتياد فيحتل مجمل الصورة وحنايا الشعور.. والتبرير من وسائل إخفاء عدم الالتفات للقبح، والتبرير الذي أعنيه كذب ولكن في اللا وعى، يصنفه علماء النفس فيما يسمى « بالحيل والآليات الدفاعية »، لأنه كذب على النفس ومداراة لما لا تحب أن تواجه نفسها به.. فتحتال لتبريره باختلاق التعلات والمعاذير.. حتى تجد للقبح أو للخطأ مبررا.. وتبرير الخطأ إغراق فيه يغلق كل أبواب أو منافذ الشفاء منه !!
فإذا كانت الطاقة الروحية هي الأمل في تجاوز ما نعانيه، فإن من المؤسف أنها بدورها معطوبة بالتفاف القبح عليها، وجريان الخلط بين المبادئ والمآرب، أو بين الأهداف والوسائل.. غدا لدى البعض أن الغاية تبرر الوسيلة، ومع أن ذلك كان له هدف خاص في كتابات مكيافيللى في كتابه « الأمير »، إلاّ أن المؤسف أن هذه المقولة جعلت تتسلل إلى الدعوات، وهى الأمل في إحياء القيم وبعث الطاقات الروحية، وإخراج الأداء الآدمي من وهدة السقوط القبيح، إلى قيم الحق والعدل والإنصاف والجمال !