من تراب الطريق (1150)
من تراب الطريق (1150)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 3/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
بين الثعالب والكلاب !
العداء بين الثعالب والكلاب عداء قديم، تجرى به الحكايات وتضرب عليه الأمثال، ولكن الجاحظ كدأبه على الدوام، يستخلص ما قد لا يراه سواه، فيعقد فصلا في كتاب « الحيوان » عن خبث الثعلب والكلب، فيروى عن صديق صاحب صيد وقنص، تعجبه من خبث الثعلب !.. وكيف يتميز بخبثه فيفرق في احتياله بين الكلب والكلاّب.. والكلاَّب هو صاحب الكلاب المعدة للصيد.. فيحتال الثعلب للكلاّب بما يعلم أنه ينطلى عليه، ولا يحتال بمثل تلك الحيلة للكلب، لأن الكلب لا يخفي عليه الميت من المغشىّ عليه، ولا ينفع عنده التماوت، أى لا ينطلى عليه.. ولبراعة الكلب في هذا الباب فإن المجوس لا يحملون من مات منهم أو ظنوا موته إلى النار، إلاّ بعد أن يدنوا منه كلباً، ليعرفوا خبر موته من حياته، لأن الكلب لا يخفي عليه مغمور الحِسِّ.. أحىٌّ هو أم ميت . ولذلك فإن للكلب عملاً لدى المجوس يستدلون به عليه !
يروى صديق الجاحظ، أنه هجم ومعه ابنه على ثعلبٍ في مضيق من المضايق، فإذا بالثعلب ميت منتفخ، فصد وانصرف عنه، ولكنه لم يلبث أن لحقته الكلاب، فما إن أحسّ بها الثعلب إلاّ ووثب كالبرق، وأطلق سيقانه للريح !
سأل الجاحظ صديقه عن ذلك، فقال له: « إن ذلك معروف من أفاعيل الثعلب، وهو أن يستلقى وينفخ خواصره ( بطنه ) ويرفع قوائمه ( أرجله )، فلا يشك من رآه من الناس أنه ميت منذ دهر، وقد تزكّر بالانتفاخ بدنه ( أى عظم وامتلأ )، فكنت أتعجب من ذلك، إذ مررت يومًا في الزقاق الذى في أصل دار العباسة ( ببغداد )، ومنفذه إلى مازن، فإذا جرو كلب مهزول سيئ الغذاء، قد ضربه الصبيان وعقروه، ففر منهم ودخل الزقاق، فرمى بنفسه في أصل أسطوانة ( السارية أو العمود ) فتبعوه حتى هجموا عليه، فإذا هو قد تماوت، فضربوه بأرجلهم فلم يتحرك، فانصرفوا عنه . فلما جاوزوا ( أى ابتعدوا ) تأملت عينى الجرو.. فإذا هو يفتحها ويغمضها، فلما بعدوا عنه وآمنهم على نفسه . عدا وأخذ في غير طريقهم ( أى جرى في اتجاه آخر ) » !
استأنف صديق الجاحظ يقول له: « فأذهب ذلك الذى شاهدته ما كان في نفسى للثعلب، إذ إنه ليس في الثعلب إلاّ الروغان والمكر ليحيد عن طالبه، فإذا بالكلب قد ساواه في أجود حيله » !!
ولكن الجاحظ يروى في موضع آخر إخفاق الثعلب في استعمال خبثه.. حين فوجئ فلم تتح له حيلة، فقد كان من أمر الروم ـ فيما روى الجاحظ في كتاب الحيوان ـ أنه لما تشاغل عبد الملك بن مروان بمحاربة مصعب بن الزبير، واجتمع وجوه الروم إلى ملكهم يحرضونه على قتال العرب، ويزينون ذلك بأنه قد أمكنته الفرصة من قتالهم وقد تشاغل بعضهم وانشغلوا بقتال بعض، ووقع وتفشى اليأس بينهم، ومن ثم فإن الرأى أن يغزوهم في بلادهم، لأنه إن فعل ذلك نجح وانتصر عليهم، وأنه لا ينبغى له أن يدعهم، لأنهم حين تنقضى الحرب التى بينهم سوف يستديرون وينقضون عليه !
ولكن ملك الروم لم ير ما يراه وجوه القوم، وجعل يبين لهم خطأ رأيهم وفساد مشورتهم، فأبوا عليه إلاَّ أن ينتهز هذه الفرصة ويغزو العرب في بلادهم وهم منشغلون بالقتال الناشب فيما بينهم .
فلما رأى ملك الروم لجاجة وجوه ملكه، أمر بكلبين فحرّش بينهما، فاقتتلا قتالاً عنيفًا شديدًا، ثم أمر الملك بإحضار ثعلب فخلاه، فما إن رأى الكلبان الثعلب، حتى تركا للتو ما كانا فيه من عراك وقتال، وأقبلا على الثعلب يهاجمانه حتى قتلاه .
نظر ملك الروم إلى الثعلب الذى قتل دون أن تتاح له الفرصة للتماوت وصرف الخطر عنه، ثم قال لوجهاء مملكته: كيف ترون ؟! فلما صمتوا ولم يحيروا جوابا، قال لهم: هكذا العرب تقتتل فيما بينها، فإذا رأونا نعرض لهم، تركوا ما هم فيه واجتمعوا علينا !
تركت الثعلب، وطفقت أتأمل في حال العرب، هل تغيرنا عمّا رآه فينا ملك الروم في ذلك الزمان، فوجدت أننا لا زلنا كما كنا من قبل ألف عام، يصرفنا اقتتالنا عن عدونا، مع أن العدو بادٍ ظاهر واضح لنا.. لا يترك حيلة لهلاكنا إلاّ اتبعها، بينما نحن غرقى في عراك بعضنا لبعض، لا نسمع ـ حتى ـ شدو عبد الوهاب الذى صدح به من أكثر من نصف قرن:
« إلامَ الخلفُ بينكمُ إلامَ: وهذى الضجةُ الكبرى علامَ » ؟!!