من تراب الطريق (1145)

من تراب الطريق (1145)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 27/7/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

تبيض الأنظمة !

تبييض وجوه الأنظمة، هو المرادف لمصطلح غسيل الأموال.. الفارق أن غسيل الأموال صار الآن جريمة جنائية تعاقب عليها التشريعات الوضعية في معظم بلدان العالم، بعقوبات جنائية طبعا، بينما تبييض وجوه الأنظمة جريمة سياسية لم تدخل المدونة العقابية، لأنها تحدث ـ إن حدثت ـ في نظم تستقوى على شعوبها بشوكة السلطة، ولا تسمح بداهةً بتجريم خداعها لمحكوميها، ولو فعلت لما كانت في حاجة أصلا لتبييض وجهها، فهو أبيض بسوائها وعدلها بين حكامها ومحكوميها، ومساواتها بين أغنيائها وفقرائها، وبين أقويائها وضعفائها، وبصدق توجهها وموضوعية سياساتها وقراراتها وتصرفاتها وأعمالها !

الأنظمة لا تلجأ للتبييض إلاَّ إذا أرادت خداع الرأي العام عن الصورة السلبية التي جعلت تحيط بها، وللأنظمة سوابق عديدة، هنا وهناك، في عمليات التبييض التي لا تترك الأنظمة المأزومة صورتها ـ لا تترك فرصة إلاَّ وتغتنمها لصرف الأنظار عما علق بها، وبث صورة خادعة جذابة للتجمل بها في عيون الناس !

وضعتني المصادفات بقرب لب أحداث كثيرة شهدتها مصر، وكان من قدري أنني راجعت معظم قضايا النكسة، وراجعت في مرحلة الطعن قضية الطيران التي حوكم فيها الفريق أول صدقي محمود وثلاثة آخرون من قادة القوات الجوية عام 1967، وقضية العميد صدقي عوض الغول قائد الفرقة الرابعة المدرعة، وعدداً من قضايا القوات المصرية التي كانت في اليمن، ودرست وكتبت جانبا من مرافعة الادعاء ـ وإن من خارج الصورة ـ في القضية رقم 1 لسنة 1967 لمحكمة الثورة، التي حوكم فيها شمس بدران وعباس رضوان وصلاح نصر وآخرون، والقضية رقم 2 لسنة 1967 لمحكمة الثورة التي حوكم فيها صلاح نصر عن تصرفات شخصية أعطيت وقتها عنوان الجهاز الذي كان يترأسه، وكان الجهاز ولا يزال محل تقدير، ولم يتكلم أحد عنه بكلمة سوء واحدة منذ طويت صفحة محاكمة صلاح نصر ومجازاة بعض من كانوا معه.. وأتاح لى ذلك ـ الإلمام بكثير من الأسرار التي لم يحن بعد أوان الإفصاح عنها، ومما أفصحت مذكرات القادة والسياسيين عنه أن قائد القوات الجوية وُضِعَ آنذاك في صورة لم تكن منصفة، فلم يقصر الرجل في محاولة إمداد القوات الجوية بقاعدة صاروخية للدفاع الجوي قادرة على التعامل مع الطيران المنخفض، وروى الفريق أول عبد المنعم رياض رئيس الأركان بعد النكسة في شهادته بالمحاكمة الأولى قبل الإعادة، كيف كلفه الفريق أول طيار صدقى محمود بمناسبة سفره ـ قبل النكسة ـ في مهمة إلى الاتحاد السوفيتى بالبحث وإمداده بأحدث ما أخرجته الترسانة السوفيتية للتعامل مع الطيران المنخفض، وروى الفريق أول عبد المنعم رياض أنه شعر أن أقدمية الفريق أول صدقي، حالت بينه وبين الإفصاح عما يلاقيه ممن هم أصغر ووضعتهم السياسة في مواضع أكبر بالقيادة العامة.. كما ثبت في تحقيقات محكمة الثورة، وما كتب من مذكرات للقادة، أن الفريق أول صدقي اعترض على تلقى الضربة الأولى حينما أبدى الرئيس عبد الناصر أن الموازين الدولية تقتضي ذلك، ونبه صدقي محمود في اعتراضه ـ إلى أن هذه الضربة سوف تكون معجّزة، ولكن الموازين الدولية فرضت على الرجل كلمتها، على غير موافقةٍ منه.. ومع ذلك ُدِفَعَ به إلى المحاكمة التي ألهبت الشارع والمظاهرات ضد قادة الطيران الذين دُفَعَ بهم لتبييض صورة الآخرين، وكان المثال الأوضح على عدم إنصاف السياسة ـ أن زُج أيضا بالفريق أول طيار جمال عفيفي رئيس الأركان إلى المحاكمة، مع أنه لم يكن قد مضى عليه في موقعه سوى أربعة أسابيع قبل 5 يونيو، كان قبلها رئيسا لمؤسسة مصر للطيران بعد أن أحيل من سنوات إلى معاش فرضته أيضا مراكز قوى.. ومع أن المحاكمة الأولى قضت ببراءته هو واللواء الدغيدي، إلاّ أن قرار القيادة السياسية أبى إلاّ أن تشملهما إعادة المحاكمة التي قضى فيها للمرة الثانية ببراءتهما، فلم يعد أمام القائد الأعلى رئيس الجمهورية سوى التصديق على الحكم القاضي للمرة الثانية ببراءتهما !

لعبة تبييض الأنظمة السياسية، لعبة قديمة، أمثلتها في الماضي والحاضر عديدة، تعطى للأقوى فرصة تحميل من يشاء بما يشاء لصرف الأنظار عن المسئولية الحقيقية، أو لتجميل الصورة، أو إظهار جدية الأنظمة في المساءلة والحساب !

على فظاعة حادث قطار العياط، فإنه يعبر عن ” حالة ” نعانى منها أكثر مما يعبر عن خطأ يمكن أن يُسأل عنه وزير النقل مسئولية سياسية.. هناك ولا شك مسئوليات جنائية ينبغي محاسبة المخطئين فيها، ولكن معظمها يرجع إلى تراكمات سنين، فضلا عن تواضع مستوى الخامة البشرية التي ينضح تواضع أدائها في مواضع عديدة في شتى المرافق.. في النقل وغير النقل.. منها ما حدث في حريق قصر ثقافة بنى سويف، ومع ذلك اختلف عيار المسئولية الوزارية بين الحادثين، اختلافا يعبر عن رغبة في التبييض على حساب الوزير محمد منصور.. شعرت بها في العنوان السماوي الذي حملته إحدى الصحف القومية: « منك لله يا محمد منصور » !!.. وفي المغالاة في تهجم المناقشات النيابية على رجل ظني أن أداءه ومسلكه كان محلاً للتقدير، مثلما كانت مبادرته بتقديم الاستقالة محل احترام، لولا أن لعبة السياسة ضحت به في أول منعطف سعيا إلى التبييض !

زر الذهاب إلى الأعلى