من المسئول؟!
من تراب الطريق (1075)
من المسئول؟!
نشر بجريدة المال الاثنين 5/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أيهما المسئول: المجرم أم المجتمع؟ سؤال قديم، يعرض له البسطاء والعوام، مثلما يعرض له المثقفون وتعرض له كافة نظريات الدفاع الاجتماعي الحديث، وما يدور فيها حول تفريد المسئولية أو العقاب!
ولا أعتقد أن أحداً يملك الإجابة الحاسمة عن هذا التساؤل القديم الجديد.. فالفرد والمجتمع متقابلان، يتناوبان التأثر والتأثير، فلا يوجد فرد يخلو من تأثير ما من المجتمع بعامة ومن محيطه بخاصة، ولا يوجد مجتمع معدوم التأثير إيجابا وسلبا على أفراده.
ومن المسلم به أيضا أن أحداً لا يملك ميزانا حساسا يوازن به بين مقدار تأثير أو تأثر هذا بذاك، أو العكس.. فالمسألة مركبة وملآنة بتفاصيل وتضاعيف وعوامل مشتركة ومتقابلة ومتنازعة لا يملك أحد مفاتيحها، ولا يملك قياساً يمكن أن يقيس به كلاً منها، ناهيك عن أن يستخلص قياسا عاما يزن بمقتضاه مَنْ المسئول: المجرم أم المجتمع!
وكثيرا ما تكتنف هذه الصعوبة، قضية مثارة من ألوف السنين، هل الإنسان مجبر مسير مفروض عليه قدره لا فكاك له منه، فلا يكون من ثم مسئولا عما يصدر عنه أو يفرط منه، سيّما وخلقته ليست صناعته وإنما خلق وولد بها، أم أنه مخير يملك عقله ومعه إرادته وقدرته على أن يميز بين الخير والشر وبين الصواب والخطأ؟!
وأيضا سيظل الحوار حول هذه القضية دائرا مثارا لن يتوقف، لأن الواقع أن الوجهين متقابلان، فلا الإنسان مجبر مسير في كل أمره، ولا هو مختار مريد لكل ما يأتيه أو يصدر عنه.. هو في الغالب مزيج أو خليط من هذا وذاك، ومن المحال على الموازين البشرية إلاّ في حالة العاهة العقلية التي تعدم المسئولية، التعرف على قدر الجبر أو قدر الاختيار في موقف إنسان ما من أمر أو فعل ما.. والعدالة ليس بوسعها أن تقف عاجزة إزاء هذه الحيرة، فالموازين الدقيقة التي تهتدى للحق المطلق هي لله تعالى وحده جل شأنه، وموازيننا البشرية مضطرة إلى التسليم بالنسبية، ومحاولة التعرف على ميزان لا ينفرط به نظام المجتمع فيجنح الجانح بدعوى أنه مجبر مسير مقدور عليه قدره، أو يُظْلَم من قام به عارض من عاهة عقلية أو نفسية أو ظرفية تؤثر على مسئوليته كليا أو جزئيا.. من أجل ذلك فلا مناص أمام العدالة، والفكر بعامة، من التسليم كما قال أفلاطون من زمن بعيد، بأن « العقل » هو بوصلة الآدمي بين الخير والشر، وأنه إن كان التمييز والفطرة هاديين للعقل، فإن هناك عوارض عقلية أو نفسية أو ظرفية يمكن أن تعرض أحيانا للتمييز، وأحيانا لحرية الإرادة والاختيار.
الجنون المطبق ـ مثلا ـ يعرض للتمييز، فيسقط المسئولية إسقاطًا تامًا، وبين الجنون المطبق والمرض النفسي درجات وأطياف توصف أحيانا بعاهة في العقل من باب التوسعة وترك المجال للعلماء للتعرف والتدقيق، وتوصف أحيانا بأمراض نفسية هي بدورها على أطياف ودرجات إن لم تؤد إلى نفي المسئولية فإنها تؤثر ولا شك في مـقدار العقاب.
وحالة الضرورة التي اتفقت عليها الشرائع السماوية والوضعية، هي تسليم بإمكان تأثير الظروف على الإرادة الإنسانية أي على حـرية الاختيار، وإن لم تؤثر على القدرة على الإدراك والتمييز، واختلفت وتختلف التشريعات في معاييرها بشأن حالة الضرورة التي تبيح الفعل أو يقتصر أثرها على التخفيف.
مرة أخرى نعود إلى السؤال الذي لم أهرب منه! من المسئول: المجرم أم المجتمع؟.. جوابي أنك إن فتشت فستجد المجرم مسئولاً إن لم يقم به عارض عقلي أو ظرفي يسقط المسئولية، وستجد المجتمع مسئولا بنحو أو بآخر عن مجمل ما يشيعه فيه ويبنى عليه نظامه وثقافته ومنظومته وسياسته وتقاليده وعاداته!
لا يستطيع مجتمع رشيد أن يغسل يديه غسلا تاما مما قد يحيق بأفراده من جنوحات ربما كان مرد بعضها إن لم يكن معظمها إلى قعود المجتمع عن القيام بواجبه في التنوير والإرشاد والتقويم والإصلاح!