من أهرامات المحاماة مكرم عبيد الهرم الأكبر (الأخيرة)
من أهرامات المحاماة مكرم عبيد الهرم الأكبر (الأخيرة)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 5/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كنت قد أزمعت الاكتفاء بما سبق عن الأستاذ مكرم عبيد، وبدأت بالفعل أجمع المادة اللازمة للكتابة عن الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا، صاحب القمم المتعددة، بيد أنه صادفني ما جعلني أراجع نفسي، لأضيف شيئًا رأيت أنه واجب الإضافة في الحديث عن الأستاذ مكرم عبيد.
الصفحة التي أريد إضافتها، تدل على مدى أثر التكوين القانوني وامتلاك أدوات المحاماة، في تبنى وعرض القضايا العامة.
كان مكرم عبيد في نحو الثلاثين من عمره، عندما عمل سكرتيرًا للمستشار القضائي الإنجليزي، رشحه لذلك امتيازه في القانون وامتلاكه نواصي اللغة الإنجليزية، وجد وطنيته تدعوه إلى الإعراب للمستشار القضائي الإنجليزي عن حق مصر في الاستقلال عن إنجلترا، فسطر إليه مذكرة طويلة بالإنجليزية، ترجمها إلى العربية الأستاذ محمد لبيب عطية بك سكرتير عام النيابة العمومية وقتئذ، لفت نظري في المذكرة فضلاً عن سلاسة العرض، قوة
الحجة التي أنبأت عن بذور المحاماة في نسيج هذا الشاب الوطني الذي عرف بأنه « ابن سعد »، وصفها عبد الرحمن بك فهمى بأنها مذكرة في غير حاجة إلى تقدمة، إذ هي غنية بذاتها بما حوته من آيات الوطنية الصادقة. بدأها مكرم عبيد بقوله للمستشار القضائي الإنجليزي: « إني أشعر أن لكم على حق استيضاح ما قد يكون خافيًا عليكم من أمرى في شان وجوب الاعتراف باستقلال مصر.
أولهما: أن واجباتي كمصري تختلف اختلافًا بينًا عن واجباتي كموظف، ولكن لا يوجد بين هذه وتلك أي تعارض.
ثانيهما: أن دقة مركزي قد خفف منها كثيرًا، اتصافكم بسعة الفكر والمعرفة، وفوق هذا فإنه يجدر بي أن أحيطكم علمًا بآرائي السياسية، فحياتنا القومية تدعونا ألاَّ ندع فرصة تمر من غير إيضاح الوجهة الوطنية لكل من يدفعه حب الخير لهذه البلاد.
« إن رأيي السياسي هو رأي الجماعة « مصر للمصريين » وحرية بلادي واستقلالها، والسلام وحب الخير للناس أجمعين ».
« إن أظهر ما في الحرب الضروس التي جرت أنها كشفت عن مذهب في الكمال أخذ في أوروبا شكل نهضة للاشتراكية المتطرفة، وفي الشرق المتأني أظهر أنواع الوطنية أو مشاعر القومية الخالية من عصبية الدين أو المؤثرات الخارجية، وسيسجل التاريخ من مميزات هذا القرن نتيجتين ملموستين: الثورة الروسية والثورة المصرية.
« وثورتنا التي حازت فخار هذا الاسم أشد ما تكون أثرا في العالم الشرقي في تقبل ونشر الأفكار التي كانت أرضنا أول ما غرست فيه.
« إن صيحة الحرية قد عادت ترن في أجواء وادى النيل، وتلك الشعلة التي لم يفلح استبداد القرون الطاحن في إطفائها لا يزال بصيصها في قلوب الرجال والنساء، وإن الحكم المنصف الذي أتيح له أن يرقب عن كثب مظاهراتنا ــ لابد وأن يكون قد شعر بعظم قوة الكمال الذي سبح بجماعتنا في ملكوت لم يسبق لأحد أن ارتاده أو حلم بوجوده.
طفق مكرم عبيد يسوق حججه، أن مصر والمصريين يختارون الآن في حياتهم السياسية وما اجتازته أمم أوروبا، ولا يحركهم في موقفهم حقد على إنجلترا، وإنما حقهم في الحرية التي يستهدى بها على ممر الأحقاب، ثم يحاجيه فيقول إذا كانت هذه السنين الطويلة تحت الحكم البريطاني لم تكف لتقوية أرجلهم على حملهم، فإنه لا يكون عجيبًا أن يطلب المصريون عهدًا في الحكم غير الذي كان. هذا ما يقوله أهل الجدل، ولكن الواقع أن مصر قد بلغت من المدنية منزلة لا تتفق إلاَّ مع الحرية والاستقلال.
« إن مصر عن بكرة أبيها تطالب بهذا الاستقلال، ولا أثر فيها للتعصب الجنسي أو التعصب الديني، وأن العامة في مصر أسلم قلبًا مما كانت عليه العامة في عهد هيردووت، وأن ما وصلوا إليه من التسامح هو بُشرى النهضة الوطنية التي لا تنحصر في الفئة المتعلمة، بل هي أكثر ظهورًا في العامة.
كان قساوسة القبط القادة المنشودين لجموع المتظاهرين، وما أحلى صيحات البشر التي كانت تصعد من قلوب القوم كلما مر بهم علم يتعانق فيه الهلال والصليب. ثم إن المكان الأول الذي اتخذه الأزهر الشريف منبع العلوم الإسلامية في حركة التسامح هذه، فيه ما فيه من المعاني. ولا عجب في ذلك، فالطالب الأزهري هو الطالب المصري الوحيد الذي وضع العلوم الأدبية والفلسفية القومية الصحيحة، وهو يفضل بكثير في أدبه وحلاوة صيته الأفندي العادي الذي كونه لنا التعليم المصري « المتجلنز » أي ذلك التعليم الذي رأت السلطات الإنجليزية نفحنا به.
« أما القبط فقد ظهر للعيان اندماجهم في الحركة الوطنية قلبًا وقالبًا ».
وليت شعرى أيجهل القاضي « ماك بارنت » أن الأقباط هم من بنى الإنسان وأن غريزة الوطنية فيهم لابد من أن تجد لها مخرجًا يظهر منه وجودها وبه تستبين، وإذا كان الأقباط ليسوا إنجليزا مثله فلا مفر من أن تصبح وطنيتهم بالقومية المصرية كاسية.
أما الحماية، فإن الاعتراض عليها يخلص في كلمتين: أنها ليست إلاَّ قيدًا من الإخضاع تحت حكم الإنجليز ووصايتهم، والثانية أن الأمة المحمية هي أمة فاقدة لشخصيتها. ومصر لا تقبل لا هذه ولا تلك، ولن تقبل أن تذوب شخصيتها في شخصية الأمة التي تحميها!
« لقد كنت أفهم دائمًا أن الحرية الدستورية التي نالتها إنجلترا وفرنسا من قديم العصور، كانت عهدًا تاريخيًا للمدنية بأسرها، ومع هذا فإن هاتين الأمتين لم يكن لهما في المدنية الشأو الذي لهما الآن ــ فكانت نسبة الأميين فيهما تفوق نسبتها عندنا، ثم أنهما لم تكونا على علم بالنظم الدستورية ولا بصنوف العلوم والمعارف التي يتميز بها العصر الحاضر. وكانتا فوق ذلك قريبتي العهد باستبداد الملوك بل باستبداد الأشراف تحت نظام الإقطاعات، فمصر في ذلك هي بلا ريب أحسن حالاً وأكثر استحقاقًا للأحكام الدستورية ».
وإذ ليس في وسعى أن أنقل إلى القارئ الكريم ما ورد بتلك المذكرة الطويلة الضافية، فإنني أختم بما ختم به الأستاذ مكرم عبيد.. « لقد عثرت بلادي على روحها، فحق لها أن تعيش حياة من له روح… لقد تطور العالم فأصبحت الرقاب لا تعنوا إلاَّ لحكم المحبة ».
وأخيرًا، فقد كانت هذه الجذور الراسخة في صفحة وجدان مكرم عبيد، هي التي بوأته ما تبوأه في وطنه، والمكانة السامقة التي ملأ بها الدنيا في المحاماة!