من أهرامات المحاماة.. مكرم عبيد الهرم الأكبر (1 ــ 2)
من أهرامات المحاماة.. مكرم عبيد الهرم الأكبر (1 ــ 2)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 15/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من حق الأستاذ مكرم عبيد أن يأتي على قمة أهرامات المحاماة، وهم كثر، جميعهم أهرامات أصحاب كرامة، وأصحاب مكانة وعطاء وتاريخ عريض، احتل كل منهم مساحة عريضة رسالة الحرية والانتصار للحق، والدفاع عن المظلوم، أو المهدد بظلم.
قدمت الأستاذ مكرم عبيد، لأن صفحته جمعت مزايا وعطاءات عديدة متنوعة، فهو النجم اللامع جدًا المحاماة، وهو النقيب لعدة دورات، وهو الثائر الذي تواصل مع ثورة 1919، وأحد أعمدت تشكيل الوفد، وسكرتيره الأول الذي كان ومصطفى النحاس رفيقين لا يفترقان، وصاحب العطاء والأثر العريض الوطنية المصرية، وهو رئيس حزب الكتلة الوفدية الذي شكله وخاض به الحياة السياسية، إثر خروجه ــ أو إخراجه ــ من الوفد بعد خلافة الكبير مع النحاس، وما فجره « الكتاب الأسود »، وهو هو البرلماني البارع، وحامل حقيبة وزارة المالية كافة الوزرات الوفدية، قبل خروجه منه وتشكيله حزب « الكتلة الوفدية »، ثم هو من زعماء مصر الكبار، ومن عقد المحامين العظماء الذين ملأوا الحياة الوطنية قبل 1952.. مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، والدكتور محمد حسين هيكل، والأخوين على وأحمد ماهر، إلى غيرهم من حبات هذا العقد الفريد.
مكرم عبيد، من رموز الحركة الوطنية مصر، فكان ضمن الوفد المصاحب لسعد زغلول، وكان مع المنفيين من الوفد إلى جزيرة مالطة، وكان أبرز رموز حزب الوفد منذ تأسيسه عام 1918، من عشاق الوطنية والليبرالية، وهو من صك العبارة التي شاعت بعده: « إن مصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطنٌ يعيش فينا »، وكان قداسة البابا شنودة الثالث كثيرًا ما يعبر بهذه العبارة عن عشق مصر.
كان على قبطيته حافظًا للقرآن، وكثيرًا ما يستشهد به مرافعاته التي طارت الآفاق، وصارت تنسج حولها الروايات، لم يعرف التعصب، بل كان يقول: « نحن مسلمون وطنًا، ونصارى دينًا ».
عشنا شبابنا ونحن نسمع كمسارى الأتوبيس ينادى المحطة المسماة باسمه حيث كان يقطن منشية البكري: « محطة مكرم »، ولم تسمى محطة باسم محام غيره سوى محطة الهلباوي منيل الروضة.
لم يكن قد بلغ الأربعين حين دخل الوزارة، فهو من مواليد 25 أكتوبر 1889، ولا يحمل إلاَّ لقب « أفندي » وكان غيره يحملون ألقاب البشوية والبكوية، فكان أحد أفنديين شابين دخلا وزارة مصطفى النحاس الأولى مارس 1928، ولكنه كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس.
حمل مكرم عبيد أفندي، حقيبة وزارة المواصلات، وزارة مصطفى النحاس باشا الأولى، التي شكلت 16 مارس 1928، دخلها شابًّا وهو دون الأربعين، لا يحمل إلاَّ رتبة « أفندي »، ولكن مساهماته وكفاءته ومكانته وصيته، فرضوه ليتبوأ مقعدًا تلك الوزارة، والتي لم يقيض لها أن تعمر طويلاً، لاصطدامها بالاحتلال البريطاني، وتعرض إئتلافها للانشقاق بخروج جناح الأحرار الدستوريين برئاسة محمد محمود باشا الذي شكل يونيو من ذات العام ما سمى بوزارة « اليد القوية ».
لم تستمر وزارة « اليد القوية » ثم وزارة عدلي يكن باشا ( الثالثة )، لم تستمرا طويلاً، فعاد الوفد إلى الحكم أول عام 1930، وشكل النحاس باشا وزارته الثانية أول يناير 1930، وللمرة الثانية، وهو لا يزال شابًّا، يحمل مكرم عبيد أفندي حقيبة وزارية، ولكن « وزارة المالية » هذه المرة، وهى الحقيبة التي ظل يحملها وزارات الوفد المتعاقبة حتى خرج من الوفد تاركًا فيه علامات لا تنسى.
وزارة النحاس باشا الثالثة، المشكلة 9 مايو 1936، حمل مكرم عبيد للمرة الثالثة حقيبة وزارية، وحقيبة « وزارة المالية » للمرة الثانية، وبقى هذا الوطني حتى النخاع، قائمًا على ماليات مصر الوزارات الوفدية المتعاقبة، وحمل حقيبة المالية للمرة الثالثة وزارة النحاس باشا الرابعة، حين بلغ الملك فاروق سن الرشد ( بالتقويم الهجري ) 29 يوليو 1937، وكانت وزارة الوفد قد وقعت مع بريطانيا معاهدة 1936، والتي ألغاها النحاس باشا آخر وزاراته، حين قال للبرلمان عبارته الشهيرة: « من أجل مصر وقعت معاهدة 1936، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها »، فألغاها البرلمان.
حين تولى فاروق الحكم، عهد إلى النحاس باشا أغسطس 1937 بتشكيل وزارته الرابعة التي دخلها مكرم عبيد وزيرًا للمالية وحاملاً الباشوية هذه المرة.
وعاد مكرم عبيد باشا، ليحمل حقيبة وزارة المالية أيضًا، وزارة النحاس باشا الخامسة، التي شكلت إثر حادث 4 فبراير 1942.
وكانت تلك آخر عهد مكرم عبيد الوزارات الوفدية، فقد كان الخلف قد بدأ ينشب بينه وبين النحاس باشا، وكانت الأمور قد تفجرت وتأزمت إثر ظهور « الكتاب الأسود »، الذي كشف فيه مكرم عبيد ما اعتبره الوفد تهجمًا عليه، وتأزمت الأمور، وحين شكلت وزارة النحاس باشا السادسة 26 مايو 1942، خرج منها مكرم عبيد أشهر وزير لمالية مصر، وحل محله فيها كامل صدقي باشا، الذي شغل بدوره موقع نقيب المحامين أكثر من مرة.
ولكن عاد مكرم عبيد باشا ليحمل 8 أكتوبر 1944 حقيبة وزارة المالية، ولكن وزارة أحمد ماهر باشا الائتلافية هذه المرة، ودخلها حزب الكتلة الوفدية الذي ألفه مكرم عبيد، و الذي ظل حاملاً لذات الحقيبة وزارة أحمد ماهر الثانية، فلما شكل النقراشي باشا وزارته الأولى 24/4/1945 إثر اغتيال أحمد ماهر باشا البهو الفرعوني بالبرلمان، احتفظ مكرم عبيد باشا موقعه الأثير وزيرًا لمالية مصر.
بيد أنه لا يزال صفحة مكرم عبيد الكثير الذي احتل به مكانة الهرم الأكبر عقد المحامين العظام.