من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة ( 8 )
من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة ( 8 )
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 31/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
اتصلت مواهب عبد العزيز باشا فهمي، وقدراته، وعلمه، وتفقهه في الدين وفي القانون، وعلمه باللغات إلى جانب أستاذيته في اللغة العربية، اتصلت بمعظم مجاهداته في خدمة القضايا والآمال الوطنية.. فنراه ينهض فيها بالجانب الذي يتطلب هذه الإمكانيات التي يندر أن تجتمع كلها في سياسي واحد. كانت هذه المكنات حاضرة في كل ما اضطلع به وأدّاه من أدوار وطنية.
كان هو الذي عَرَّى ما في مشروع « ملنر » من مغالطات ظاهرها الاستقلال والاعتراف به، وفي باطنه الحماية وتقريرها وترسيخها.. فقد تصدى لمواجهة الصدمات المتتالية التي واجهت الوفد المصري بالخارج.. حين لم يجد الوفد عضدًا له بباريس، وأوصدت دونه أبواب مؤتمر الصلح، وتلقى صدمة اعتراف الرئيس ويلسون في أبريل 1919 بالحماية الإنجليزية على مصر، وتلاه اعتراف مؤتمر الصلح بها في مايو، ووقعت معاهدة الصلح بين ألمانيا والحلفاء في 28 يونيو من ذات العام وتتضمن اعترافًا بتلك الحماية.
وإذْ قوطع اللورد ملنر الذي أوفدته الحكومة البريطانية إلى مصر، واضطر للعودة إلى لندن، فقد بعث إلى الوفد في باريس المستر « هرست » أحد أعضاء لجنته ليدعو الوفد للمجيء إلى لندن للمفاوضة، وانتهت المفاوضات على البعد إلى قبول الوفد الانتقال إلى لندن، حيث بدأت لقاءاته باللورد ملنر، في وزارة المستعمرات (؟!)، وقدم اقتراحين على التوالي لمشروع معاهدة بين مصر وإنجلترا رفضهما الوفد، وقد توالت الأحداث في تفصيل يطول، حتى تقدم اللورد ملنر بمشروعه الأخير في 18أغسطس 1920 ؛ مشترطًا قبوله كله أو رفضه كله، وانتهى رأى الوفد إلى استشارة الأمة، بيد أن سعد زغلول لم يشفع إرسال المشروع إلى مصر ببيان رأيه فيه، وإنما تحدث فقط عن أدوار المفاوضة، وسافر سعد إلى فيشى للاستشفاء، ولينتظر نتيجة استشارة الأمة.
وجدير بالذكر أن الوفد أوفد أربعة من أعضائه لشرح المشروع في مصـر: محمد محمود باشا، وعبد اللطيف المكباتي بك، وأحمد لطفي السيد بك، وعلى ماهر بك، وانضم إليهم في مصر: مصطفي النحاس بك، والأستاذ ويصا واصف، والدكتور حافظ بك عفيفي. وفي بيانه إلى الأمة 22 أغسطس 1920 ـ عن مشروع المعاهدة ـ ذكر سعد زغلول
ما موجزه. أن بالمشروع مزايا لا يستهان بها، إلاَّ أنه وقد تغيرت الظروف التي وكلتهم فيها الأمة، ومن ثم فإنه يرى الرجوع إليها قبل البت في المشروع، فهم نواب الأمة المسئولون، وأصحاب الرأي فيها، ولم يبد سعد رأيه الشخصي في المشروع.
إلاّ أن سعدًا، في خطابه إلى أعضاء الوفد في مصر ـ أفصح لهم عن رأيه في المشروع، بما فحواه وجوب رفضه، إلاّ أنه طلب منهم عدم الإفصاح عن ذلك وأن يبقى بينه وبينهم.
ورى عبد العزيز فهمي في « هذه حياتي » أن الوفد كلفه في لندن بأن يدرس مشروع المعاهدة، فدرسه وقدم في أكتوبر 1920 في مذكرة طويلة.
ومذكرة عبد العزيز باشا فهمي طويلة، لا يتسع لها المقام هنا، وقد أوردها الرافعي بنصها في مؤلفه عن ثورة 1919 لمن يحب الرجوع إليها، ونكتفي هنا ببعـض فقرات منها:
« إن سياسة الإنجليز في هذا المشروع لا تخفي على من ينظر في الأمور بعين الناقد البصير، هي تنحصر في هذه الصيغة: أخذ إقرار الأمة المصرية نفسها بتصحيح مركزهم إزاءها، كما أخذوا إجماعًا أو شبه إجماع من الدول بتصحيح مركزهم في مصر والسودان ليتم لهم بذلك قطع كل احتجاج يقوم في وجههم من الداخل أو الخارج معًا ».
وقال عبد العزيز فهمي في مذكرته عن القوة العسكرية:
« إن اشتراط وجود قوة عسكرية إنكليزية في الأراضي المصرية هو اشتراط لا يتفق مطلقا مع سيادة البلاد في الداخل، بل هو من طبيعة الحال في كل بلد للغير حماية عليها أو ملكية فيها، وندر أن توجد قوة أجنبية في بلدة مستقلة حرة، وليس محو صفة الاحتلال عن هذه القوة العسكرية والنص على عدم مساسها بحقوق الحكومة المصرية بمانع من أنها في ذاتها قوة أجنبية، مجرد وجودها كافٍ للمساس بالسيـادة الداخلية التي للبلاد على نفسها ».
وقال عبد العزيز فهمي عن المستشارين المالي والقضائي:
« تشترط بريطانيا العظمى في الفقرة الثالثة من المادة الرابعة أن تعين مصر بالاشتراك معها مستشارًا إنكليزيا بالمالية وتشترط بآخر الفقرة الرابعة من المادة المذكورة أن الموظف الإنجليزي الذي يعين بالحقانية بالكيفية المذكورة يجمع بين يديه فوق وظيفته الأصلية وظيفتي مستشار الحقانية والداخلية معًا. وأقل مقدار المفهوم من هذه الاشتراطات أن مالية الحكومة المصرية وقضاء البلاد المصرية والأمن العام في البلاد المصرية ـ سيكون ذلك جميعه تحت مراقبة الإنجليز. فدخائل ماليتنا ستكون معلومة لديهم، ودخائل إدارتنا وبوليسنا ستكون معلومة لديهم، ودخائل قضائنا الأهلـي والشرعي ستكـون معلومة لديهم ( بقطع النظر عن القضاء المختلط )، ويكفي هذا ليتحقق للإنجليز ولو معنى المراقبة على إدارة البلاد الداخلية وهذه المراقبة مهما قلّ أثرها، طعن في سيادة البلاد الداخلية ومصداق واضح للحماية ».
وقال عن المركز الخاص للممثل البريطاني:
« لا تقتضى أي محالفة من المحالفات المعقودة بين الأمم المستقلة الحرة أن يكون لممثل إحداها مركز خاص وتقدم على ممثلي الدول الأخرى.
« إن كون ممثل إنجلترا له مركز استثنائي بمصر وله التقدم على سائر معتمدي الدول الأخرى لا يصح مطلقا أن يكون نتيجة من نتائج التحالف العادي، وإنما هو نتيجة صريحة لوضع مصر داخلا وخارجا تحت المراقبة الإنجليزية دون سواهـا، وهذا الاشتراط لا يعهد له نظير إلاّ في البلاد المحمية بغيرها. وأما المستقلة الحرة فلا شيء فيها من هذا القبيل ».
وانتهى الأستاذ عبد العزيز بك فهمي في مذكرته إلى وجوب رفض هذا المشروع بعد أن فضح ما به من مغالطات لستر الحماية بتوابعها تحت شعار الاستقلال !