من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (7)

من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (7)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 24/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

خلطة المواهب والقدرات التي دانت لعبد العزيز باشا فهمي، من القليل النادر أن تتوفر لدى شخص واحد، حتى أنك لتحتار في اختيار اللقب الذي تعبر به عن هذه الشخصية الفذة.. وترى ذلك ماثلاً أمامك كلما تفرعت في الحديث عنه.. فإذا كان من الصفات ما هو منه إلهية، فإن صفة العالم ــ وقد كان عالمًا ــ حاضر فيها إرادة دءوب هي التي دفعت إلى طلب العلم في مظانة، وبذل الجهود مهما كانت مضنية في سبيل تحصيله ناهيك بالتميز فيه.

لم يكن الدكتور طه حسين مجاملاً حينما سعى إليه ليلقاه في منزله، ولا كان مجاملاً حينما أبدى أن هذا الأديب الشاعر العالم، قد كتب ملاحظات عميقة على هوامش كتابه « في جنة الشوك »، ولا كان مجاملاً حين أفصح عن أنه سهر عليها شغوفًا ليلم بها، ولا كان مجاملاً حين أقر بأنه أستفاد بهذه الملاحظات القيمة ــ وهو عميد الأدب العربي، وإنما كان طه حسين كبيرًا وأمينًا حين أبدى كل هذه الإقرارات، وعطاء عبد العزيز باشا فهمي يشهد بذلك.

قد مر بنا بعضٌ من شعره، أو ما يطلق عليه المعلقة الثامنة، ومر بنا إنجازه ترجمة « مدونة جستنيان » بملاحقها عن الفرنسية، وهي ترجمة قد يهرب منها كبار فقهاء القانون وعلماء اللغة العربية واللغة الفرنسية، ولكن عبد العزيز فهمي أقبل عليها مُريدًا مختارًا، لا نفع في الأفق يمكن أن يتحقق له بإنجاز هذا العمل الكبير العويص، ولكنه أنجزه لأنه عالم يحب العلم.

عن هذه الترجمة العويصة وجهوده المتميزة في الفقه والقانون؛ يحدثنا العلامة الفقيه عبد الرزاق السنهوري في تأبين عبد العزيز فهمي في مجمع اللغة العربية، فيقول عنه:

« وفاضت جهود الفقيد، فانتفع به التشريع المدني، فهو قد قرأ القانون المدني الجديد نصًا نصًا، وراجعه كلمةً كلمةً، فصقل من عباراته، وأطفي عليه من علمه وتجاربه.

« وكانت له قدرة عجيبة في الترجمة إلى اللغة العربية، فقد عمد إلى كتاب في القانون لا تسعف فيه مادة سهلة، ولا تشفع له لغة معبدة، هو مدونة جوستنيان في القانون الروماني، فنقله إلى اللغة العربية في عبارة دقيقة رصينة، لا تكاد تشعرك بالتكلف المألوف في لغة الترجمة، وفعل مثل ذلك في ترجمة ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وتدركون جميعًا فضله العميم على مصطلحات القانون في مجمعنا الموقر ».

ومن المعروف أن عبد العزيز فهمي اختير في لجنة وضع دستور 1923، وليس سرًّا أنه كان شعلة من النشاط والعطاء فيها، يسبقه عطاءٌ شخصي لوضع مشروع دستور مصري، أنجزه بمفرده بناءً على طلب الوفد المصري وهم بالخارج في باريس لحضور مؤتمر الصلح والمطالبة بحق مصر في الاستقلال والحصول على حقوقها التي نهبها الاحتلال، فعكف وهو في باريس وأنجز مشروع ذلك الدستور المأمول.

كان كما وصفه ـ في تأبينه ـ العلامة الفقيه عبد الرزاق السنهوري ــ « لا يفوته أمرٌ من الأمور الهامة في الحياة القانونية العامة إلاَّ وساهم فيه. ساهم في الحملة على الامتيازات الأجنبية، وساهم في إصلاح النظام القضائي والتعجيل بإنهاء القضاء المختلط، وساهم في وضع الدستور، وساهم في القانون المدني الجديد، وأقول كلمة موجزة عن هذه النواحي من نشاطه قبل أن أنتقل إلى نشاطه الرئيسي في القضاء ».

« جاهد الفقيد في سبيل إلغاء الامتيازات الأجنبية جهادًا مشكورًا، ومن كان مثله مرهف الحس، قوى العاطفة، عنيف النضال شديد الإيمان بكرامة بلاده وبحقها الطبيعي في أن تتخلص من هذه الامتيازات البالية العتيقة، لا عجب أن يحمل لواء المعارضة لهذه الامتيازات، وأن يقود الحملة عليها في وقت كانت الحركة الوطنية الحديثة لا تزال في دور الإرهاص، قام المستر « برونيات » المستشار القضائي في عهد الحماية ــ بوضع مشروعاته المعروفة التي أراد بها أن يحل محل الدول الأجنبية جميعًا في امتيازاتها ــ دولة أجنبية تجمع في يديها كل هذه الامتيازات، هي الدولة البريطانية، التي بسطت حمايتها السياسية على البلاد، وتريد عن طريق هذه المشروعات أن تبسط حمايتها القضائية، وكان من حسن طالع مصر أن الفقيد يوم ذاك كان على رأس المحاماة الوطنية، نقيبًا للمحامين ؛ فاستطاع وهو يرفع صوته مدويًا بهتك ستر هذا الضرب الجديد من الحماية ــ استطاع أن يجعل هذا الصوت هو صوت المحاماة بأسرها، بل صوت جميع رجال القانون من المصريين، بل صوت الأمة المصرية جمعاء، واهتز « برونيات » أمام هذا الصوت القوى، وأيقن أن مصر قد رزقت رجلاً يناضل عن حقوقها، وأن صرخت هذا الرجل قد مست الأوتار من القلوب، وتغلغلت في الصميم من النفوس، فنكص على عقبيه، وطوى مشروعاته، ووقى الله مصر الأذى على يد هذا الرجل العظيم، ومن يقرأ كتاب الفقيد الذي نشر في ذلك الوقت عن الامتيازات الأجنبية يطالع فيه هذه الشخصية القوية، ويلمح وجه هذا الرجل الذي يؤمن بكرامة بلاده لأنه يؤمن بكرامة نفسه ».

« وكانت هذه الضربة الأولى التي هز بها صرح الامتيازات الأجنبية العتيد، أما الضربة الثانية فيوم وقف أمام الملك، وفي حفل حاشد يحتفل بانقضاء خمسين عامًا على إنشاء المحاكم الوطنية، وقف يمثل القضاء الوطني، وقد سلخ هذا القضاء من عمره نصف قرن، فاستكمل أسباب الوعى والنضج، واستوى على أسس قوية راسخة، وكان الفقيد في قوة بيانه خير من يمثل هذا القضاء السامي، فتناول في كلمات مأثورة خالدة القضاء المختلط الذي كان يعيش إلى جنب القضاء الوطني، الذي كان الرمز الحي للامتيازات الأجنبية البغيضة، وصرخ صرخته التي لا يزال دويها يرن في الآذان حتى اليوم، ونادى بوجوب إلغاء هذا القضاء المصري في شكله، الأجنبي في معناه، لقد وقف الفقيد بالأمس وقفته الأولى يسمع صوت المحاماة الوطنية، وها هو بالأمس القريب يقف وقفته الثانية يسمع صوت القضاء الوطني، ويقول في هذا الحفل الحاشد، مخاطبًا هذا الملك، ومصر ترهف سمعًا منصتةً واعيةً: « لقد آن لنا اليوم أن نطمع منكم أن تجهروا بكلمتكم مسمعة معلنة.. أن مصر أصبحت مستحقة للتمتع بما تتمتع به كل أمة، من الاستقلال بإدارة العدل في ديارها بين قضاتها أجمعين».

زر الذهاب إلى الأعلى