من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (5)
من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (5)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 10/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
إمامة المرحوم عبد العزيز باشا فهمي في المحاماة، وفي القضاء، وفي اللغة والأدب والشعر، وفي الوطنية، وفي السلوك الرفيع لم تنبت في هذا الهرم الشامخ من فراغ.
هذا التمكن الموسوعي صادف ولا شك استعدادًا شخصيًا من حباية الخالق عز وجل، أحسن المحيطون بالفتى منذ نشأته في رعايته ومواكبته بما يستحقه، مثلما أحسن هو شخصيًا في رعايته بتعامله الجاد مع الحياة، تقديرًا لكونها نعمة ربانية، وإدراكًا لكونها رسالة يجب التماس الأسباب التي تهيئ للنهوض بأعبائها.
وظني أن قيمه الرفيعة المغروسة في شخصيته؛ كانت الحارس الذي كفل نجاح صاحبها في كل ما طرقه، وفَصَّلَ منه زعيمًا وطنيًا فذًا.. صادقًا ومخلصًا ورفيعًا، استحق ما تبوأه من قمم متعددة.
إتقانه اللغة، ثمرة حُبﱟ يبلغ العشق، فكان القاضي الأديب، والمحامي الأديب، والسياسي الأديب، والشاعر الأديب الحكيم… قليلون هم من يعرفون أن عبد العزيز باشا فهمي شاعر موهوب؛ من أشهر ما نظمه « المعلقة الدالية »، بلغت ثلاثمائة وأربعين بيتًا، في الأخلاق والاجتماع، نظمها عام 1949 قبل رحيله عن الدنيا بعامين، وصف فيها شيخوخته ومرضه، وأبان عن تجاربه الطويلة في الحياة ومع الناس، وعنايته بالعلم والتعليم الذي كان ملهمًا للمنوفية التي بث فيها روحًا وكافح لنشر التعليم في ربوعها بين أبنائها، حتى إن الأمية لتكاد تتوارى فرارًا أمام تلك المعاهد التي نفخ فيها الرجل من روحه، فانبرت ترسل النور.
في مطلع قصيدته الدالية، أو المعلقة الثامنة كما أطلق عليها العارفون، يقول أديبنا الحكيم الشاعر:
يا حادى العمر أبعدتَ المدى فمتى
تُلقى عصاك وتُعفي من الكبد
تسع وسبعون ميلادية غَبَرتْ
قضيتها بشقاء الروح والجسد
إنْ سامنى الطبعُ إخلادًا إلى دعةٍ
صالت علىّ الأماني صولة الأسد
لغته الرفيعة تجلت في بلاغة وجزالة أشعاره، مثلما تجلت في مرافعاته بالمحاماة، وأحكامه القضائية إبان رئاسته لمحكمة النقض، التي جمعت بين متانة الفقه وقوة الحجة والمنطق، وأدب الصياغة، وعمق الفكر.. ونستطيع أن نعزوها في كلمات إلى موهبته الفطرية، وإلى حفظه القرآن الكريم في صباه، وإلى دراسته الأزهرية في مطلع حياته، بالمسجد الأحمدي بطنطا، ثم بالجامع الأزهر بالقاهرة، وما فتئ طوال حياته ينميها ويصقلها، حتى صار علمًا من أعلامها.
شهد له الأديب الكبير محمود تيمور، وعميد الأدب العربي طه حسين.
تحدث عنه الأستاذ محمود تيمور، وعن انبهاره به وسعيه للتعرف إليه حتى نال بغيته، فيروى لنا أنه مع علمه بأنه أحد ثلاثة كانوا في طليعة الوثبة الوطنية للمطالبة بحق الأمة المغتصب؛ فإنه وقد تناهي إليه أحاديث نادرة تصف مواقفه الرائعة الجبارة.. في السياسة والتشريع والقضاء والمحاماة.
« أول مرة اجتليت فيها صورة الرجل عن كثب، كانت بدار المجمع اللغوي ـ لمحته على أريكة يجلس جلسة تتوضح فيها الوداعة البالغة، متراخي الأوصال، قليلاً على الأريكة شخصه الضئيل، فاسترعى انتباهي منه طول اطراقه، وقد أزاح طربوشه إلى الوراء، كأنما يفسح لأفكاره مجال الانطلاق !
« أهذا صاحب مشروع الحروف اللاتينية لكتابة العربية، ذلك المشروع الذي انبعث من المجمع قذيفة اهتاج لها رجال الفكر في أرجاء الأمة العربية، فكانت منار يقظة ونشطة وانبعاث ؟ »
امتلاكه نواصي اللغة العربية، تلاقى مع إتقانه اللغات الأجنبية، وتحت يدي طبعة قشيبة أنيقة طبعتها مطبعة جامعة فؤاد الأول آنذاك عام 1951، لمدونة جستينيان، ترجمها عن الفرنسية، وهذا عمل عظيم ورائع، وبالغ الصعوبة لا يتصدى له إلاَّ ذوو العزم من العلماء الأدباء.. دعونا نقرأ ماذا كتب محمود تيمور:
« وقعت في يدى نسخة من ذلك الكتاب الذي ترجمه عبد العزيز منذ عهد قليل، ذلك هو « مدونة جستينيان في الفقه الروماني ».. مجلد ضخم بخلاصة التشريع في ذلك الزمن البعيد، هو آية إعجاز في دقة التعبير، وإحكام الأداء، تتجلى في ديباجة عربية بليغة.. عليها رونق ورواء.
« تناهي إلىّ أنه احتبس في داره ثلاثة أشهر، يزاحم ليله بنهاره في الترجمة والمراجعة والتنقيح، حتى فرغ مما أراد في الشهر الذي أكمل به عامه الخامس والسبعين، فكأنه يتوج تلك السن المباركة بذلك الجهد العلمي الرفيع !
« كنت أقلب في صفحات هذا الكتاب، فترف حوالى صورة ذلك الرجل الذي لمحته منكمشًا على الأريكة في دار المجمع، غارقًا في تأملاته. أشبه ما يكون بفيلسوف هندي من أولئك الذين أخذوا أنفسهم برياضيات صوفية لا يطيقها إلاَّ الأقلون الأندرون ؛ فتذكرت بيت الشعر القائل:
وما المرء إلاَّ الأصغران لسانُهُ
ومعقولُهُ والجسم وهم مصوّر
لقيه محمود تيمور، فسمع منه، ليروى أن حديثه صورة واضحة من شخصيته: خلابة في المنطق، وفصاحة في العرض، وصدق في اللهجة.
« إن الكلمات لتندفع على شفتيه مشبوبة الحيوية تتوهج، وإنك إذ تستمع إليه لتستشعر خفوق قلبه وفورة دمه. فيتجلى لك مظهرٌ رائع من حرارة الإيمان، ونقاء الطوية وصراحة الرأي.
« حسبك أن تجلس إلى الرجل جلسةً واحدة تسمع ما يفيض فيه من الحديث، لكى يستبين لك جُماع الخصائص النادرة التي عُرف بها في حياته العامرة.
« للرجل افتنان في الحديث يتيح له أن يجوز بك آفاقًا رحابًا في عالم الفكر، وله عونٌ أي عون من ذاكرة أمينة بالغة الأمانة، وذكاءٌ عبقري لا ترده حدود، ونزعةٌ إلى الاطلاع تعُبّ ولا تُروى ! »
أما عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فدعنا ننتظر حتى نرى تأبينه ـ بالمجمع اللغوي ـ للراحل العظيم عبد العزيز باشا فهمي، وماذا قال فيه !