منطق النعامة والخداع الضرير

نشر بجريدة الوطن الجمعة 21 / ١ / ٢٠٢٢
ـــــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

كنا ونحن صغار ، نردد فى قاعات الدرس « أن حجة البليد مسح التختة » فالبليد يحب أن يدارى بلادته ، وأن يظهر لمن حوله غير حقيقته .
ونحن نعرف أن النعامة حينما تلاقى خطرًا ، تسارع إلى دفن رأسها فى الرمال ، ظنًا منها أنها متى حجبت نفسها عن رؤية الخطر القادم ، فإنها بدورها لابد وأن تكون قد اختفت عن عيون ذلك الخطر .
ويبدو أن منطق النعامة بإخفاء رأسها فى الرمال ، قد صار أسلوبًا يلجأ إليه البلداء والأنصاف فى الحياة العامة . وهذا الأسلوب ــ أسلوب النعامة ــــ دال فى جميع الأحوال على خيبة تصور أن محاولة إخفاء المروم اخفائه ، سوف تنطلى على الكافة مهما كانت محاولتها مكشوفة فى الحقيقة ولا يعز على أحد أن يراها مفضوحة أمامه ، لا خفاء لها إلاَّ على من يتوهم أنه نجح فى إخفاء مراده على عموم الغير أو الفئة أو المجتمع !
ومن الظواهر المؤسفة أيضًا ، أن يقع البعض أسرى لوهم أن الأكاذيب والخداع ، كافيان لدرء المطلوب درءه ، وعدم إنكشاف ما عساه فيه من هبوط وانحراف وانحدار .
ويخطئ من يظن أن المهام والأعمال والإنجازات والحقائق والأدوار تنجز بالدعاوى والمخادعات مهما بلغت من التفاهة والتهافت والتـنافر والافتضاح . تابعت إبان يناير2009 ، مشهدًا غريبًا إدعى فيه متقول لم يدرك أن الناس تفهم وتعى ، أنه لا بأس من اختيار وانتقاء وترسية بالأمر المباشر لجهة وحيدة فى عطاء كبير لجهة أموالها أموال عامة ، وشأنها شأن عام ، وأن البأس لم يأت هذا التصرف الجانح من قريب أو بعيد مادامت الشركة المختارة المنتقاة بالأمر المباشر فوق مستوى الشبهات لأنها تتبع فيما يرى جهازًا حساسًا كبيرًا من أجهزة الدولة !
ويتجاهل المتقول أن تحريم الأمر المباشر فى العطاءات الكبرى ، لا يستهدف فقط حماية الجهة صاحبة العطاء ؛ من ناحية قيمة العطاء ، إتقاءًا للانفراد بالعطاء وانعدام المنافسة ، التى قد يؤدى غيابها إلى غياب الموضوعية فى تقدير التكاليف والالتزامات فى العطاء الذى انفرد ـــ بلا منافسة ــ بتكليفه بالعطاء بالأمر المباشر .
فإفتراض الشفافية والموضوعية والعدالة فى قيمة العطاء بالأمر المباشر ، لا يعنى سداد هذا الأسلوب أو غلقه كل الأبواب التى يمكن أن يأتى فيها الضرر .
إن صاحب ومُصْدِر الأمر المباشر هو ذاته من أسباب تحريم الأمر المباشر فى العمليات الكبرى ، فإذا كان باب التربح المادى مغلق لرسمية ونزاهة المرسى عليها العطاء بالأمر المباشر ، فإن انفراد مُصْدِر الأمر المباشر ، يحمل مخاطر أخرى وغوايات أخرى بعيدة عن رسمية ونزاهة الجهة الصادر إليها الأمر المباشر .
إن التربح الذى جرمته المادة (115 ) من قانون العقوبات ، هو للنفس أو للغير ، فإذا ما إفترضنا أن تربح الغير غير وارد لمتانة ورسمية ونزاهة المأمور بالأمر المباشر ، فإن تربح « النفس » ـــ نفس من أصدر القرار ـــ هو أحد صور تجريم هذه الجريمة .
يفوت صاحب أو أصحاب هذا المنطق من مصدرى الأوامر المباشرة فى العمليات الكبرى ، أن النص العقابى يجرم التربح للنفس ، وليس هذا التربح للنفس قاصرًا على صورة التلقى المباشر ممن رسا عليه العطاء بالأمر المباشرة حتى يكون التذرع برسميته وبعده عن الشبهات ، كافيًا لقبول انفراد صاحب الأمر بإصدار الأمر المباشر ، فقد تأتيه المنافع من أبواب أخرى بطريق غير مباشر ، وعلى ذلك فإن إعتراض المشرع والقانون على « الأمر المباشر » فى العمليات الكبرى وإلى حد تجريمه والعقاب عليه . لا يستهدف فقط الراسى عليه العطاء بالضرورة ، وإنما يستهدف أيضًا وبالتأكيد من أصدر الأمر المباشر ، وذلك حمايةً للمصلحة العامة من احتمال سعيه إلى تحقيق الربح لذاته ، ذلك أن التقاضى سرَّا من الراسى عليه العطاء بالأمر المباشر ، ليس هو الباب الوحيد للانحراف ، بل هناك أبواب ومنافذ أخرى للتربح والانحراف بعيدًا عن الراسى عليه العطاء ، ولا تغلق تلك الأبواب والمنافذ الأخرى لتربح من أصدر الأمر المباشر ، تربحًا ماديًا وكذا أدبيًا ومعنويًا .
ذلك أن جناية التربح التى جرمتها المادة (115 ) من قانون العقوبات ، تعاقب على كل ربح أو منفعة للنفس أو للغير ، وللمنفعة معنى يجاوز الربح المادى إلى كل منفعة قد تكون مادية و معنوية أو أدبية ، ولذلك فإن من صور التربح للنفس ، أن يخطب المغرض ورد ورضاء الجهات الرسمية بالترسية عليها بالأمر المباشر ، أملًا فى أن تعطية أو تيسر له الحصول على المكانة أو النفوذ أو المزايا والتقادير والصلات والمكانة والنفوذ ، ولذلك لا يوجد فى مكانة الشركة المختارة المنتقاة المكلفة بالأمر المباشر ـ بفرض هذه المكانة ـ ما يدرأ الشكوك فى قصد الاستفادة الشخصية من الترسية بالأمر المباشر أو يحجب أغراض التربح للنفس بالحصول على المنافع الأدبية والمعنوية فى مثل هذه الأحوال !
هذه واحدة !!
والثانية أنه فى مقابل التربح للنفس أو للغير ، يوجد احتمال الإضرار بالمال العام ..فاستقامة الترسية بالأمر المباشر ، وهذا غير جائز مادامت مخالفة للقواعد والأصول ، لا يدرأ بذاته احتمالات الإضرار بالمال العام .. فتعدد العطاءات الذى تتيحه المناقصات أو المزايدات حسب الأحوال ، هو الذى يحقق المنافسة الجادة الحقيقية بين العطاءات ، فيصب فى صالح الترسية بأفضل الأسعار وأقلها فى حالة المناقصة وأزيدها فى حالة المزايدة . والاختيار بالأمر المباشر مهما كانت عناصره ، هو حجب غير مشروع بل ومؤثم للتناضل والتنافس الحر بين أكثر من عطاء فى إطار إجراءات شفافة تضمن تحقيق أكبر العوائد للمال العام ؛ وتقيه من الإضرار الذى يتسبب فيه بالتأكيد أسلوب الاختيار والانتقاء والترسية الانفرادية بالأمر المباشر !
أغرب الغرابة أن يجرى هذا الحديث الطائش من رجل قانون أو يقال لرجال قانون ، ظنا أن الدنيا قد ساد فيها وماج حوار الطرشان ولم يعد أحد يبالى بما يقال ولا كيف يقال ولا بأى أسلوب ومنطق يقال ، ويجدف به تجديفا مؤسفا فى المنتديات وعلى شاشات الفضائيات لتعم ثقافة الجهالة والخداع ، ويضيع الفهم والوقار وسط الضجيج والصخب والشعارات !!
غير مقبول تحت أى شعار ، إدارة الشخصيات الاعتبارية العامة ، بمنطق التكايا والعزب والإقطاعيات !! فهذا الأسلوب هو أوسع أبواب العبث والإنحراف .
فى المشروعات الخاصة ، ملكية صاحب المشروع ، تحميه من أى احتمال للتفريط فى مال المشروع ، فصاحب القرار هو صاحب المال ، وملكيته ومصلحته الشخصية ــ هى أمان قراره واختياره وترسيته للعطاءات !
والأمر على خلاف ذلك فى الكيانات العامة ، فالمتنصب عليها يتصرف فى المال العام لا فى ماله ، وهذه الحقيقة هى التى حدت بالمشرع إلى اصدار القوانين التى يجب ان تجرى عليها المناقصات والمزايدات ، واللعب فى هذه الأمور خارج دائرة القانون وما ألزم به ، هو فى ذاته جريمة ، وباب لا ينغلق لتربح صاحب القرار وبطانته ، وباب المنافع ــ المادية والأدبية ــ باب واسع ، واللعب على أوتاره ينطلق بغير ضوابط و بلا قواعد ، إذا ما أبيح الخروج على ما يلزم به القانون فى رعايته للمصلحة العامة ، وللمال العام .
تجاهل هذه الحقائق عمىً ضرير ولا يجدى فيه أسلوب النعامة ، فالمغرض وشأنه فى دفن رأسه فى الرمال ، ولكن الناس من حوله تبصر وترى و تحكم ، وويل لكل منحرف من حكم التاريخ ، حتى وإن أفلح فترة فى مداراة جرائره عن عيون الناس والسلطات !

زر الذهاب إلى الأعلى