منطق الدببة

نشر بجريدة الوطن السبت 18/12/2021

ـــ

بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

شاع منذ منتصف مايو 2010 ، تعبير « نائب إطلاق الرصاص » ، النائب أحد أعضاء الحزب الحاكم فى ذلك الوقت ، أما النداء فهو موجه إلى أفراد الشرطة ، يدعوهم إلى إطلاق الرصاص على أبناء الشعب .

أى شيطان ركبه فجعله يطلق هذه الكلمات العبيطة التى يدرك هو نفسه أنها لن تجاوز لسانه أو حلقه .. هل كان يعنى حقاً أن تقوم قوات الأمن المركزى بإطلاق النيران على المتظاهرين تظاهرًا صامتًا ؟! هل كان يصدق نفسه فعلاً ـ أن من يناديهم بنداء لا يوجه إلاّ لقوات « الهاجانة » الإسرائيلية فى عصفها بالعرب .

هل كان يصدق نفسه فعلاً أن الجنود المصريين سينصاعون لندائه فيطلقون النيران فى المليان على بنى وطنهم ؟!

ظنى إن لم يكن يقينى ، أن السيد العضو المبجل كان يعرف ـ هو نفسه ـ أن قوات الشرطة لن تلقى بالاً إلى ندائه المقزز ، وكان على يقين ـ هو نفسه ـ أن نداءه لن يجاوز حنجرته ، وأنه هو ذاته لم يعن غير إطلاق حنجرته بهذه الكلمات الخائبة ؟! فلمـاذا إذن أطلقها ؟!

أطلقها لأنه يعرف أن الكلمات صارت تحل لدينا محـل الأفعال ، وأن لا أحد فى الغالب الأعم يعنى ما يقول ، فالكل يقول ، والكـل لا يفعل ، ولا أحد يلوم أحداً أو يستوقفه إطلاق الكلمات وحلولها محل الأفعال ! هذه واحدة !

والثانية مناخ عام كرسته بعض الأقلام الملكية أكثر مـن الملك ، وأكثر مما يريد الملك ، تتسابق فى إظهار الولاء ، إن لم يكن بالفعل ، فليكن بالكلام ، هناك أقزام تعالوا على عمالقة كبار بالسب والشتم والتحقير والإهانة ، وربما تمنى الواحد منهم أن ينعم ليتشرف بمجرد السلام وتبادل التحية مع من تطاول عليه بأقذع الألفاظ والشتائم والإهانات !! شاع فى الجو العام نوع من إظهار الولاء الرخيص ، هذا الولاء الرخيص هو أس البلاء ، هو أساس المشكلة ، هو سبب ما تورط فيه العضو المبجل الذى أطلق لسانه للتعبير عن الولاء كما يطلقون ! وتسابق فى إظهار الإخلاص بالكلام كما يتسابقون ! ولم يكن يدرك أنه جاوز الخطوط الحمراء ووقع فى حومة الوغى حين أطلق ألفاظاً يرى كل يوم أنه لا يتـوقف عندها أحد ، فلماذا إذن توقفوا فى هذه المرة ؟!

توقفوا لأن الكلمات المداهنة المرائية المتزلفة ـ كلمات سفيهة حمقاء ترتد بالسلب على من يتملقهم ويداهنهم ، ويوقن ـ حسب عـقله ـ أنه يتزلف إليهم وينال رضاهم كلما أوغل فى الحَمْقة والانفعال . الخطأ الذى وقع فيه هو الشعرة أو الحد الفاصل بين مداهنة يمكن قبولها لأنها إن لم تنفع فلن تضر ، وبين تزلف أحمق يجلب النقد ووجع الدماغ لمن أراد إظهار الولاء لهم ونيل القربى منهم !

فما الذى أرداه فى هذه الهوة السحيقة ؟! أرداه أنه رأى أقلاماً تشتط تزلفاً وتقذف القامات بالقاذورات دون أن يراجعها أحد ، مع أن سداد فاتورة هذا الشطط لا يدفعه المشتط بل يدفعه سواه ، لأنه يجلب للكبار عداوات ، وينقل الاختلاف فى الرأى ، إلى خصومات وتار بايت يتحمله غيره . هناك أقلام بالغة الجموح استحضرت إلى الساحة مناخًا عامًا فى الرياء والنفاق والتزلف ، وهى فى ظنى المسئول الحقيقى عما تورط فيه النائب المبجل .. فهى التى حضته بما يراه ويعاينه ـ أن يدخل المعمعان ليتسابق فيه دون أن يكون مالكًا لأدواته .. فخلط بجهالته بأصول اللعبة بين ما يقال أو يمر ، وبين ما لا يقال ولا يمكن أن يمر ! لم يدرك أنه مهما كان فى عبارته من تظاهر لفظى ونفاق ظاهرى ـ لن يستمع إليه أحد ، وأن اندفاعه الأحمق نقطة سلب بالغة الخطر لا يمكن للمسئولين تمريرها وإلاّ صارت طعنة نجلاء تدينهم وتحذف منهم ما تصور السيد العضو الموقر أنه سيضيفه إليهم !

السيد العضو المبجل أوقعه هواه فى الزلفى فيما لا تحمد عقباه ، وليس له أن يلوم إلاّ نفسه ، لأنه انزلق برعونته فيما لا يُحسِن الكلام فيه ، وظن أن كل من ركب حصان النفاق خيّال ، وأورده هذا الظن السقيم موارد التهلكة ، فخسر الجلد والسقط .. ذلك أن حساب خسائره لم يتوقف عند إدانة الرأى العام وشجبه لهذه السقطة النكراء ، وإنما امتد ليحول ما ظـنه سوف يكون حساب أرباح ، إلى حساب خسائر . مشكلته الكبرى أن هذا الحساب الأخير الذى انقلب إلى النقيض ، كان هو هدفه ولا هدف له سواه ، وكان هو غايته ولا غاية له سواها . هو يفهم حين أطلق أعيرته بهذه العبارة الطائشة أنه لن يرضى المصريين ، وسيجلب عليه سخط الرأى العام ، بيد أنه لم يكن يبالى ـ فى سبيل هدفه المقصود ـ بعدم رضاء المصريين ولا بسخط الرأى العام . إنه يعرف غايته ، وحدد غرضه ، وهو الإرضاء والتزلف والقربى ، وكلها فى ظنه ومقصوده رصيد أرباح ومكاسب لا تستوقفه أى خسائر جانبية خارج هذا الرصيد المهم الذى حدد فيه غرضه ، فلا مصر تعنيه ، ولا المصريون يشغلون له بالاً ، مادام يخوض الحمم لإظهار الولاء والإخلاص ! لذلك جاءت نكبته مضاعفة ، لأنه خسر الجميع ، وأوجعه أكثر أنه خسر من أراد بزلفاه التقرب إليهم ونيل رضاهم ، فإذا بهم على عكس ما تمناه ، يظهرون النكير له ولما فعل ، ويتعقبونه بالحساب  والمساءلة !

قيل فى الحكم والأمثال :« عـدو عاقل خير من صديق جاهل ».. وتمثل العقلاء « بالدّبة » التى قتلت صاحبها وهى تريد مداعبته ، ولو تمثل السيد العضو المبجل هذه الحكمة ، لأدرك أن السلاح الحقيقى الذى يحقق له طموحه ، هو التزام العقل والموضوعية والوقار . الإخلاص هو إخلاص للقيم وليس تزلفًا للأشخاص . فى حديث رسول القرآن ـ عليه الصلاة والسلام :  « من أسخط الله في رضا الناس ، سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه فى سخطه ، ومن أرضى الله فى سخط الناس ، رضى الله عنه وأرضى عنه من أسخطهم فى رضاه » .. وفى عبارة السيد المسيح عليه السلام : « لن تربح شيـئًا إذا كسبت كـل شىء وخسـرت نفسك » ؟!

السيد العضو المبجل قد خسر كـل شىء ، خسر الناس ، وخسر من أراد إرضاءهم بسخط الناس ، وخسر نفسه .. لن يفارقه صعد أم هبط فى سلم الترقى الذى ينشده ، أنه فى لحظة عقيمة معتمة تقيأ عبارة مجنونة ينادى فيها بإطلاق الرصاص على المصريين !

وظنى أن المسئول الحقيقى عن هذا النشاز ، هم صناع النغمة أو التيمة العامة ، التى جعلت الوصولية والتزلف والنفاق سمـة عامة ، يتسابق فى إطارها طلاب الوصول من ضعاف النـفوس ، نعم . ما انطلق من السيد العضو المبجل نشاز زاعق ، ولكنه نشازٌ ظهر أنه لم ينفرد به ، وكشفت المناقشات التـى أديرت فى البرلمان ، وتصريحات السيد العضو صاحب اقتراح إطلاق النار فى المليان ، أنه لم يكن الوحيد صاحب هذا النشاز ، وكان هناك آخرون جعل يذكرهم ولسان حاله يقول : « اشمعنى أنا » ؟!!

مفجع ومؤسف وموجع .. أن يسود منطق : لماذا يحاسب الناشز عن نشازه مع أن الجميع فى الهم نشاز؟!!

زر الذهاب إلى الأعلى