ملكة الوعي والالتفات وسط زخم الحياة (1)
من تراب الطريق (978)
ملكة الوعي والالتفات وسط زخم الحياة (1)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 17/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يبدو أنه مع انصراف الناس للمظاهر والأفعال، والتصرفات والأشكال، والوقائع والمؤثرات، والمصالح والأغراض، والأهواء والمآرب ـ انصرف الناس إلى ذلك كله عن التأمل في داخلهم.. لا يكاد يوجد بينهم اليوم من يتأمل داخله إلاّ في نادر النادر !.. نسى البشر داخلهم صغارًا وكبارًا.. ابتعد ذلك الداخل ولم يعد يمكن أن يراه صاحبه.. واختفي في نظر الغالبية إلى غير رجعة.. صار عموم البشر أسرى عيونهم وحواسهم الدائمة الالتفات إلى غير ذلك الداخل.. منشغلين بالمحيط الخارجي أو بما نعبر عنه بالدنيا الواسعة.. هذه الدنيا التي يحاول كل منا الاتصال بها في نصيب من عمره قبل أن يختفي.. للأسف المؤسف تعود معظم الناس على عدم المبالاة بقيم الإيمان أو الذمة أو الضمير أو الحق أو الخيـر أو الرحمة !.. فهذه كلها كانت فيما مضى وانقضى وضمر الإحساس الحقيقي بها في قلوب وضمائر الناس.. يضيق هذا الإحساس تارةً ويتسع تارة أخرى تبعًا لاختلاف الأوقات والأحوال !.. صار ما ندعوه الواقع أو الوجود أو الدنيا أو العالم ـ هو ميدان حياة كل منا تبعًا لخطته أو قدراته.. لا شأن له في الغالب الأغلب بحقيقة داخله إن لم يكن هذا الداخل قد اختفي من حياته كلية !.. بات معظم الخلق على نفور عام من التوقير والصيانة والمراقبة لداخل الآدمي، فقد اتسعت فجأة استفادات البشر من اهتمامهم بالانتباه الحاد ـ إلى قدرة الآدمي أي آدمي على الاستفادة الحاضرة أو الممكنة من محيطه وخارجه، وتغييرهما المطرد الذي لا ينقطع إبداعًا واتساعًا ـ في مد هذا الاقتدار المفتوح للحواس والابتكار والانتهاز والتقليد والمكر والأنانية التى لم يعد يحدها الآن حدود سوى الفشل أو القهر أو هما معًا !.. فاختفت القناعة أو كادت من عموم البشر وحل محلها الإلحاح في الطمع لدى العاجز والقادر.. وليس في هذا الاندفاع غرابة.. لأننا مقلدون أصالة.. جبلنا على التقليد والمحاكاة منذ أن وجدنا.. ماضين وحاضرين.. وطبيعة التقليد تسمح لهذا أو ذاك بالانتباه لبعض الأغراض التى لم يسبقه إليها غيره في محيطه.. والناس قد يغريهم ما التفتوا إليه فيقلده كل منهم بقدر استطاعته، وقد يضطرهم إلى هذا التقليد ـ بعد تمنع أو تردد المحيط.. إذ لا يوجد سلوك دائم لدى جنسنا لتعرض أفراده الدائم إلى الوجود من العدم وإلى العدم من الوجود !.. وهو ما يتيح للآدميين نوعاً من القدرة للفرد على حفظ ما لم يره أو ما رآه ولم يعرف سببه ـ بالسماع أو بالكتابة أو بالصورة في حدود كل منها .
ونحن حتى مع أنفسنا ـ لا نتبع قط نفس الخطوات أو الحركات أو الرغبات أو الإشهادات أو الإرادات أو المرفوضات.. ولوحدة هذه اللغة السائدة أو تلك برغم تطورها المستمـر غيـر المحسوس.. لا يلتفت عموم الناس إلى ذلك عادة.. برغم اندماجه في كلامهم وكتاباتهم ومطبوعاتهم، وفي نثرهم وشعرهم وخطبهم وغنائهم.. لأننا خلقنا لكي نتغير بغير توقف من لحظة الميلاد إلى نهاية العمر.. والبشر يسمون ذلك اصطلاحًا مراحل العمر التي يتعاقب فيها الاختلاف بظهور جديد يحل محل سابق يبيت بدوره قديمًا !
وهذه الاصطلاحات قديمة سطحية قدم كل من لاحظ ما يسمى مراحل العمر رغم تغيره الذي لا ينقطع بتغير الأفراد أحوالاً ثم تغيرهم كلية بغيرهم.. من أول الدهر إلى ما شاء الله.. لأننا على انتقال مستمر من خطوة الوجود في دنيانا إلى خطوة الزوال منها بلا أي استثناء !!
والتفاتنا العجيب إلى وجود كل منا حال حياته الوقتية الحتمية الدائمة التغير، هو اللعبة الأولى والأخيرة لحياة كل آدمي.. وفي ماض أو حاضر أو مستقبل.. وهذا هو الآخر في ظهور واختفاء وذكر ونسيان وانتباه لعدم، وعدم لانتباه.. وهكذا دواليك.. بقدر ما نتصور نحن يتصور كل آدمي في يومه وغده إن أمعن التصور، ولكن غالبيتنا الغالبة بعيدة كل البعد ـ عن هذا الإمعان الذي يكشف لصاحبه خواء البشرية الدائم حين تخلو من الأحلام والتطلعات والآفات والغايات والأغراض والمقاصد والفلاح والنجاح والمكانة والمنزلة والثروة والغنى والأبوة والأمومة والبنوّة والقرابة والمحبة والصداقة والابتعاد والبغض والعداء والانتقام والشماتة !