مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (4)
من تراب الطريق (1031)
مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (4)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 2/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
حريات الأفراد شاغل عام منذ القرن السابع عشر ـ عالي الصوت، أجوف المضمون، خالٍ من المحتوى الحقيقي الفعلي في كل مكان اشتغل فيه أهل الفكر بالعلوم الوضعية ولم تكف فيه الألسنة والأقلام عن الحديث والتشدق بتلك الحريات.. هذه الحريات التي لا تبالى بها ـ عملاً ـ السلطات وفروعها.. كما يتخطاها باستمرار أرباب النفوذ وأصحاب الحول والمقامات والثروات ويتحداها كبار الشخصيات من أهل العلم والفن والأدب والاقتصاد والإعلام.. هذا الضجيج الأجوف شيء ولا شيء معًا ووجود وعدم في ذات الوقت.. لأنه حتى اليوم مجرد ذريعة في يد ومشيئة تلك القوى العديدة في تسلسلها من أعلاها وأهمها، أو في مشيئة ويد أقربها وأكثرها فاعلية وتأثيرًا بالنسبة لجيش الضعفاء قليلي الحيلة والفقراء والمعوزين والعاجزين والضائعين.. وهم الكثرة الكثيرة في كل جماعة حتى الآن.. ونادرًا جدًّا ما يمكن أن يتدخل أو يؤثر ذلك الجيش الفقير العاجز!ـ في نطاق أو منطقة نفوذ الأقوياء الذين تتغول قوتهم وتمحو حريات الآخرين !.. ولم تخل الجماعات البشرية في أي زمان ومكان من النفاق والرياء والدهاء والغباء، ولم يتيسر لها بعد أى زمان ومكان تتخلص فيه من هذه النواقص ! نداءات حرية الأفراد وسط هذا الضجيج، محض اصطلاحات ومصكوكات تردد للتجمل والتزيين، يتمناه المتلقون ولكن لا يستقبلونه، لأن إطلاقه لم يصادف نية صادقة، ولأنه في نظر المتشدقين مجرد عبارة للمتاجـرة، وهي في نظر المتفائلين عبارة غامضة حلوة تتجاوز وتلملم واقعهم الحالي.. بينما منهم القلة التي تلتمس الحظوظ بالمجازفة، أو تؤثر استخدام الدهاء والاستغلال والخديعة أو تفضل الجسارة والجرأة للوصول إلى السلطة وما يأتي من فيضها.. ومنهم الكثرة من أهل الخمول والاستسلام والاستكانة والرضا بالقسمة والمقسوم.. يضاف إلى هؤلاء وأولاء أصحاب الكيوف وعشاق التشرد والتنقل والتغيير والتبديل ومعتادو الفشل والسرقة وعصابات السطو التي لا تفارق حالها ما عاشت !
ولم يلغ التشدق بعبارة «حريات الأفراد» ــ نشاط تلك الأنواع والأصناف المطرد الموجود في كل جماعة من الجماعات البشرية إلى اليوم !!
وربما أشار هذا إلى أن الآدمي كفرد أو كأسرة أو رهط أو بلد أو أمة ـ معرض فيما هو معرض له لأن يكون واحداً من فئة من هذه الفئات أو أكثر !
لأنه إن قصد حقيقة أن يحتج بحريات الأفراد ـ احتاج حتمًا إلى قيم إنسانية تشده وتقيده وتمسك بخناقه، وإلى قيادة متمكنة سوية لا مهرب منها إلاّ الاستسلام والإذعان للقيم والامتثال والاحترام لنداءات القيادة الرشيدة.. بلا مواربة أو مماراة !
هذا النوع لم يعد له وجود في أيامنا هذه إلاّ في أقل القليل من البشر.. ربما نتيجة انصرافهم عن الالتفات إلى داخلهم، وإغراق الكل خاصة وعامة في التوجه إلى خارجهم.. أى إلى الاختراعات والاكتشافات والفضائيات والأرضيات والأسرار والأخبار والفصول والأجواء وما يناسبها ويليق بها !
قد ألهتنا تلك الأمور بعجائبها وغرائبها وأطوارها وتقلباتها وتغيراتها المتوالية المتتالية البالغة السرعة والانتشار والتقليد ـ ألهتنا عن التأمل والتفطن والاتزان وعن الموازنة وحساب المسئوليات والعواقب، وأنستنا إهمالنا لداخل كل منا وما أدى إليه تسطيحه وحجب أعماقه.. فلم يعد له في نظر معظمنا ـ بل ربما كلنا ـ قيمة فعالة في مراقبة سلوكنا وتوجيهه، أو في قيادة فكر كل منا واستقلاله عن غيره، أو في رؤيته الهادئة إلى خصوصيات ذاته وماضيها وحاضرها وقابلها في محيطها الخاص أو العام.. فبات كل منا تقريبا يحركه فقط ما تنقله إليه الإذاعات والصحف والمجلات والمطبوعات والمقالات والأحاديث.. يذعـن لها دون أن يشعر، فَتَمّيعَتْ آدمية كل منا ولم يعد فردًا متميزًا يحرص على ذات متميزة !
ربما كان بعض تلهى الناس بالظواهر الفارغة عن التأمل والتفطن والالتزام ـ راجعًا مع اتساع الجماعات إلى اتساع اللغات اتساعًا لم يسبق له من قبل مثيل . فاللغة مسموعة ومقروءة ومكتوبة، أو مرئية بالإشارات، ليست لغة فرد واحد فقط إنما لغة مجموع من الأفراد غير محدود أو معروف.. وعموم اللغة هو الذي يسر وييسر خدماتها للجميع برغم الفرص المتاحة للفصاحة والبلاغة والوضوح أو نقيض ذلك .