مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (1)

من تراب الطريق (1028)

مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (1)

نشر بجريدة المال الأربعاء 27/1/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نحن حتى الآن لا نثق أن استعداداتنا الداخلية ومنها العقل نفسه ـ ليست ذواتًا وليس لها ذوات خاصة بكل منها، ولا ندرك بفهم ووعى أنها تخدم عملها كأعضاء الجسم الحىّ وأجهزته وأعصابه وخلاياه وأوردته وشرايينه.. وهذه كلها لا تشعر لنفسها بما تؤديه من تحركات وتوقفات أو من عمل أو تعطل ـ في ميدان عملها الواسع الفسيح.. شأنها في ذلك شأن الآلات والأدوات التي يستخدمها الإنسان .

فلا غرابة في أن نجد أن معظم خدمات عقولنا مصروفة في خدمات ما تريده وتشتهيه أوما تقصيه وتخشاه مما هو موجود في خارج كل منا ولا يتيقظ دائمًا للقيم الهامة جدًّا التي يتوقف عليها بقاء جنسنا وتقدمه وتطوره، لكنه يتفطن لمنطق الأسباب والنتائج الجارية باستمرار في الزمان والمكان حيث نعيش ـ وذلك على حين أن تلك القيم الهامة هي الزاد الدائم عقلاً، وهي الأسس الحقيقية لتقدم الآدميين وتطورهم في حياتهم الظاهرة الخارجية، لأن ظاهرهـا وخارجهـا يعـودان حتمًا علـى داخلها بلا انقطاع .

ويبدو أن ما في البشرية قد بقى دهورًا طويلة يتقلب في أيدى القوى المادية البالغة القسوة والعنف وعدم المبالاة بأحد إلاّ بذاتها وبأغراضها.. يجرئها على ذلك إذعان واستسلام باقي الخلق لسيطرتها الرهيبة.. وحين فقدت تلك الأيدي أغلب قوتها وعنفوانها سمحت بظهور إفاقات ويقظات دينية شاركت معها سيطرتها وسلطانها ـ عصورًا قليلة ـ سمحت في نهاياتها بيقظات قومية هنا وهناك .

في أوربا الغربية نجحت هذه الإفاقات أو اليقظات في تحجيم سيطرة الاستبداد المدني والكنسي بإرخاء العنان لعقول وإرادات الأفراد الجريئة المغامرة المستعدة للمخاطرة والمجازفة في بحار العالم الواسعة ـ من أجل الربح والمعرفة وإظهار القدرة.. وعاد من هؤلاء ركّاب المخاطر عدد تزايد باطراد وزاد بلاؤهم قوة وسطوة وثقة بالنفس والوطن والشعور الغامر الشاب بالتفوق على الغير ـ ماديا وفكريا ـ في سائر أنحاء المعمورة.. وقد بقى الشعور بذلك الاندفاع الهائل خلال القرن قبل الماضي وعاش إلى نصف القرن الماضي باسطًا نفوذه على معظم بلاد العالم.. ثم تقلص ذلك النفوذ إلى حد بعيد بانتهاء الحرب العالمية الثانية.. ومازال تقلصه في ازدياد.. لأن نجـاح تلك اليقظة العقلانية اللا دينية الخارجية ـ كان فورة وقتية لعقول ونفوس كانت شابة جريئة جرأة بدنية وفكرية.. غطاها الآن بالنسيان كوارث الحربين العالميتين والأجيال الهشة التي تلتها في كل مكان حتى اليوم !

ينبغي هنا ألاّ ننسى أو نتجاهل حقائق واقعنا الآن ـ وهو غير جديد ـ فيما يتعلق بالنتاج العام لعلومنا الوضعية وفنوننا وآثارها في كل منا وفي الجماعات البشرية كلها من جهة القيمة الحقيقية للعلم والمعرفة بفروعها التي لا أول لها ولا آخر.. هذه العلوم والمعارف التي تشغل في أيامنا آلاف الجامعات والكليات والمعاهد والأكاديميات والمدارس العالية والمعامل والمراصد.. فهي أولاّ وأخيرًا عملاً وواقعًا علوم وفنون من أجل إتقان حرف راقية للكسب والمكانة الاجتماعية.. لا فرق في ذلك بين القائمين بالعمل في الجامعات وما إليها وبين خريجيها الذين يمارسون حرفهم العلمية أو الفنية في خدمة مباشرة للأفراد أو في خدمات ومراكز في المؤسسات الاجتماعية والطبية والتعليمية والاقتصادية والمالية والصناعية والزراعية أو في خدمة الملاحة والنقل والطيران والنشاط الحربى.. هذا الواقع العام النفعي الصرف لا يكاد يكون له دخل في لفت البشر أو إلفاتهم أو التفاتهم للقيم الإنسانية.. هذه القيم هي عُرى الجماعات من الأسرة الصغيرة إلى الأمة، وعليها قامت الأوطان والبلدان والدول.. وهي أصل وسر وجود البشرية نفسها ككل ووجود أجناسها وشعوبها وتعارفهم ووجود عقائدها ودياناتها وآمالها وأمانيها وحسابها ثم انتظار عقابها وثوابها في هذه الحياة وما بعدها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى