مفهوم البطولة في الشعر العربي (9)

من تراب الطريق (1095)

مفهوم البطولة في الشعر العربي (9)

نشر بجريدة المال الخميس 6/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يدور الزمان دورته، فيواجه العرب المسلمون هجومًا صليبيًّا على ديارهم، تزامنت بدايات حملته مع هجوم المغول على الشرق الإسلامي، بادئين بالعراق حيث أحرقوا الأخضر واليابس، ودمروا مكتبة بغداد العامرة، وانطلقوا إلى الشام حيث لاقاهم المصريون هناك في معركة من اخلد معارك التاريخ.

لم يكد يصل القرن الخامس الهجري إلى نهاياته، حتى دوت في أوروبا الغربية صيحات البابا إيربان الثاني بإشعال الحروب الصليبية بدعوى استخلاص الديار المقدسة من أيدى المسلمين، وترددت مع صيحاته صيحات الصليب في كل مكان وانعقد مجمع كليرمونت المشهور وفيه منحت صكوك الغفران لكل من يحمل الصليب وينهض لتخليص بيت المقدس، واستجاب الأوربيون من كل قطر من شمالي أوربا إلى جنوبيها، من الدانمارك إلى إيطاليا، ملبين هذه الصيحات للاشتراك في الحروب الصليبية يتقدمهم كثير من الأمراء مثل جودفرى دوق اللورين الأدنى وأخوه بلدوين وبوهمند النورماندى الإيطالى وابن أخته تانكرد وريموند كونت تولوز بفرنسا، وأخذت هذه السيول تنحدر إلى بيزنطة مكونة نحو مائة ألف مقاتل.

وبينما أوروبا تتجمع هذا التجمع الضخم إذا البلاد العربية منقسمة على نفسها، قد بلغت مدى بعيدًا من الضعف والانحلال، وأكثر الشاطئ الشامي بيد الفاطميين حكام مصر، ودولتهم قد أخذت تتردى في تدهور خطير، وقسم كبير من ديار الشام يتبع السلاجقة حكام العراق وإيران، وكانوا قد أقبلوا من خراسان منذ أكثر من قرن ومدوا سلطانهم على آسيا الصغرى، ولم يلبثوا أن استحدثوا نظام الأتابكة وهو أن يكون مع كل حاكم منهم لبلد أتابك أو بعبارة أخرى قائد يدبر أمر بلده، وسرعان ما ازداد نفوذ هؤلاء الأتابكة وأصبحوا هم الحكام الحقيقيين، وبذلك تفككت أوصال الدولة السلجوقية الضخمة وتفتت قوتها العظيمة.

ويروى لنا الدكتور شوقي ضيف، أنه لما جاء الصليبيون بجموعهم الحاشدة لم يجدوا أمامهم قوات تبطش بهم فلا السلجوقيون محتفظون بكيانهم القوى القديم الذي أذلوا به بيزنطة ودفعوها من آسيا إلى أوروبا، ولا الفاطميون محتفظون بشيء من قوتهم القديمة يلقون به هذا الوباء الصليبي. ونزل الصليبيون آسيا الصغرى وأخذوا يستولون على حصون السلجوقيين دون مقاومة تذكر، وتسلل بلدوين إلى حوض الفرات الأوسط، واستولى على الرها، وسارت بقية السيل إلى الشام فاستولت على أنطاكية بعد مذبحة عظيمة، وتوالت مذابح الأيدي الآثمة في البلدان والحصون حتى طرابلس واتجه السيل إلى بيت المقدس، وجاهدت الحامية المصرية وأهل القدس جهادًا مستميتًا، حتى لم يبق في القوس منزع، ودخلها جودفرى وجنوده، وسرعان ما أصبح للصليبيين أربع إمارات : الرها بيد بلدوين وأنطاكية بيد تانكرد وطرابلس بيد ريموند وبيت المقدس بيد جودفرى، ومات فخلفه أخوه بلدوين، ففتح عكا وبيروت وصيدا. ولم يبق لمصر في الشاطئ الشامى سوى صور وعسقلان، وبعد سنوات سقطت صور وظلت مصر وأتابكة الشام يناوشونهم، ولم تستطع قواهم المهيضة أن ترد السيل إلى قراره، وبلغت القلوس الحناجر. وبينما الظلام يعم المنطقة إذا أتابك عظيم من أتابكة السلاجقة هو عماد الدين زنكى يتنبه إلى أن الداء يكمن في تقطع البلدان المجاورة للصليبيين شيعًا، وأنه لن تستأصل شأفهم إلا إذا تجمعت قوى تلك البلدان في قبضة حازم، تسدد لهم ضربات قاصمة. ولم يلبث أن ركز لواء سلطانه على الموصل ثم بسطه على كثير من مدن الشام مثل حلب وحماة وحمص وبعلبك ودمشق، وأخذ يكيل للصليبيين ضربات قاضية مستوليًا على كثير من الحصون، حتى إذا كانت سنة خمسمائة وتسع وثلاثين استولى على مدينة الرها بعد قتال مرير، وبذلك محا عار هذه الإمارة التى أقامها الصليبيون على الفرات، وكان لذلك رنة فرح شملت جميع المسلمين يتقدمهم الشعراء الذين أخذوا يشيدون بهذا النصر المبين ملوحين بأيديهم في وجوه الصليبيين، منذرين ومتوعدين على شاكلة قول شاعره ابن القيسرانى :

هو السيف لا يغنيك إلا جلاده هل طوق الأملاك إلا نجادُه

سمت قبلة الإسلام فخرًا بطوله ولم يك يسمو الدين لولا عمادُه

فيا ظفرًا عم البلاد صلاحه بمن كان قد عم البلاد فسادُه

غداة كأن الهام في كل قَوْنَس كمائمُ نبتٍ بالسيوف حصادُه

فلا مطلقٌ إلا وشُدَّ وثاقُهُ ولا موثقٌ إلا وَحَلَّ صفادُه

ولا منبر إلا ترنَّحَ عوده ولا مصحفٌ إلا أنار امتدادهُ

فقل لملوك الكفر تُسلم بعدها ممالكهُا إن البلاد بلادُهُ

كذا عن طريق الصبح فلينته الدجى فيا طالما غال الظلام امتداده

زر الذهاب إلى الأعلى