معنى الجهاد في الإسلام
فى دوحة الإسلام (101)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 19/1/2022
ــــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
يختزل البعض معنى الجهاد ، وهو مكرمة إسلامية ، فى معنى الحرب والقتال فى سبيل الله ، ولا يكاد معظمهم يفهم للجهاد معنى غير هذا المعنى !
بيد أن أمثال هؤلاء المختزلين للمعنى بحسن نية ، خطبهم أيسر كثيرًا ممن أخذوا « الجهاد » على معنى غريب ، أدخلوا فيه العنف والقتل والذبح وقطع الرؤوس ، والإهلاك والتدمير ، بقالة إن ذلك فى سبيل الله ، وإنهم به يتصدون لملاحقة الكفر والكفار ، وأطلقوا لأنفسهم الحبل على الغارب للتكفير ، والحكم على الناس بالكفر ، ولم يقصروا أحكامهم الضالة على المخالفين لعقيدتهم ، وإنما مدوه أيضًا إلى المسلمين ، فابتلوا الناس جميعًا بشرورهم ، وضربوا الإنسانية بكل قيمها النبيلة ، وقوضوا سلام العالم ومجتمعاته كافة !!
لم ترد كلمة « حرب » بمعنى القتال ـ فى القرآن الكريم سوى أربع مرات فقط ، بينما وردت فيه كلمة « الجهاد » اثنتين وثلاثين مرة .
والواضح فى السياق القرآنى ، أن كلمة « جهاد » ، لا تأتى فيه دائمًا بمعنى القتال فى سبيل الله ، وإنما وردت بمعانٍ أخرى غير هذا المعنى ، وبعيدة كل البعد عنه ، فالجهاد يُطلق على معنى « جهاد النفس » ، وهو جهاد للنفس الأمَّارة بالسوء ، وجهاد للهوى والشيطان ، وجهاد لترويض النفس على الطاعات ، وإلزامها بأوامر الله تعالى وبنواهيه .
وقد يكون هذا الجهاد ـ فى القرآن ـ بإنفاق المال فى البِر والطاعات ، وفى استخدام العلم والحجة والبرهان فى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقد يكون هذا الجهاد بالقرآن الكريم ذاته ، أى بآياته وحكمه ودلائله الحسية والعقلية ، والجهاد بالقرآن ورد بصريح هذا اللفظ فى الآية ( 52 ) من سورة الفرقان ، ولفظ « به » الوارد بهذه الآية ، عائد على « القرآن » المذكور فى الآية الأسبق ، وهى الآية (50) من ذات سورة الفرقان .
وأفضل الجهاد فى حكم الإسلام ، هو جهاد النفس ، فمجاهدتها تأتى على رأس الفضائل ، وأسبق من أى جهاد آخر ، بما فى ذلك جهاد العدو فى ميدان القتال ، ولا غرابة فى ذلك ، لأن من لا يستطيع جهاد نفسه وإلزامها بالطاعات والصراط المستقيم ، لن يستطيع جهادًا لعدوه فى القتال وفى غير القتال .
روىَ بإسناده عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال : « المجاهِدُ مَنْ جاهد نفسه فى طاعة الله ، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب » .
وفى حديث آخر : « أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك ـ فى ذات الله عزَّ وجلَّ » .
اقتضت دعوة الإسلام للناس كافة ؛ أن يكون هداية للعالمين ، ممتدة بغير حد فى المكان وفى الزمان ، وغير مقصورة على قوم أو أقوام بعينهم ، ولا على جنس دون أجناس .. ينظر إلى الإنسانية باعتبارها أسرة واحدة ، عمادها الإنسان الذى كرمه الله تعالى « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » (الإسراء 70) .
الإنسانية فى الإسلام أسرة واحدة ، تنتمى إلى أصل واحد ، وتدين لرب واحد هو رب العالمين ، لا تفاضل بين آحادها إلاَّ بالتقوى والعمل الصالح .
يقول الخالق البارئ جلَّ شأنه « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ( الحجرات 13 ) .
وخطاب الآية الكريمة موجه إلى الناس كافة لا إلى المسلمين خاصة .
الناس أمام رب العالمين هم مخلوقاته التى خلقها سبحانه من نفس واحدة ، وقال فى قرآنه المجيد : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء » (النساء 1).. وفى الحديث : « ألاَّ إن ربكم واحد .. إن أكرمكم عند الله أتقاكم » .
النبوة المحمدية نبوة للعالمين .. « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا »( سبأ 28) .. « قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا » ( الأعراف 158 ) .. والإسـلام لا ينغلق على بنيه ويدير للآخرين ظهره ، وإنما هو قد اتسع للرسالات كافة ، ونبه إلى وحدة هذه الرسالات الإلهية وإلى اكتمالها بالإسلام « الدعوة الخاتمة » ، ووقر الرسل والأنبياء .. هم جميعًا فروع شجرة واحدة وبناة بيت واحد اكتمل بنيانه بالإسلام .
رسالة الإسلام هى رسالة للعالمين .. ومهمته مهمة كبرى يصدر فيها عن منظومة ربانية ، وعن هذا الفهم العميق الذى يؤهله للقيام بهذا الواجب الكبير فى تعطير الحياة وصناعة العمران الخلقى والأدبى والمادى .. يعانق العلم ، وينتصر للحرية ، ويرسى العدل ، والمساواة ، والتسامح ، يقارب الناس جميعًا بروحه السمحة ، وبمنظومته العقلية والعلمية والحضارية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التى تعانقت فى تناغم متدفق لتجعل لحياة الآدمى غاية ومعنى ، وتقربه بالعمل الصالح إلى الدوحة الربانية التى أرادها الواحد الماجد عزَّ شأنه ، للعالمين .
أيادى الإسلام ممدودة إلى الدنيا بالمحبة والسلام .. لأن الإسلام دين الحق والسلام .. لا ينفصل الحق فيه عن السلام ، فلا سلام بغير حق .. الحق هو الحامى الحقيقى للسلام ..
لفظ « السلام » هو تحية الإسلام ، ولفظ الإسلام ذاته : عنوان الدين ، ـ منحوت من مادة « السلام » ـ لأن السلام والإسلام يلتقيان فى توفير الأمن والطمأنينة والسكينة .. وكان نبى الإسلام بذاته « رحمة مهداة » .. وفى القرآن الحكيم أنه عليه الصلوات هو هدية الرحمة من السماء إلى العالمين .. « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » .. (الأنبياء 107).. وفى الحديث يقول إمام مدرسة النبوة : « إن الله جعل السلام تحية لأمتنا ، وأمانًا لأهل أمتنا » . ـ ويقول : « السلام قبل الكلام » .. « لا تؤمنوا حتى تحابوا .. ألا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم » .. « إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانتهم من الله تعالى : قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم ؟ قال : « هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها . فو الله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى نور .. لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس » ..
حجة الإسلام إلى الدنيا هى الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة ، لا يبغَّض ولا يشاحن ولا يكره .. « ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » ( النحل 125 ) .. « لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » (البقرة 256).. « وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » ( العنكبوت 46 ) ..
« السلام » اسم من أسماء الله الحسنى ، معبر عن بعض صفاته .. يدرك المسلم السوى بنهجه ووجدانه أنه مدعو لاكتساب ما يستطيع ببشريته أن يكتسبه من هذه الصفة .. يفهم منها أن « السلام » هو من تسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن الشر .. يدرك أن سبيله إلى هذه الغاية أن تسلم نفسه وقلبه من الغش والحقد والحسد .. أن يتقرب إليه سبحانه بالسلام الذى اتخذه جل جلاله اسمًا من أسمائه .. أن يسلم الناس من يده ولسانه ، وأن يكون جسرًا لإفشاء السلام بين الناس ..
البينة والهداية عماد الإسلام وحجته ، والمحبة والسلام روحه وعطره …. المسلم مأمور بالأخذ بروح الإسلام ومهجته وتسامحه .. « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ » (الأعراف 199).. «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت 34) .. « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً» (البقرة 208)
السلام مهجة وروح الإسلام .. تحية الله للمؤمنين تحية سلام : « تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ » (الأحزاب 44) ـ ومستقر الصالحين ـ دار أمن وسلام :« وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ » ( يونس25) .. « لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ » (الأنعام 127 ) ، وأهل الجنة لا يسمعون لغوًا من القول ، ولا يتحدثون بغير لغة السلام : « لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلاّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا » ( الواقعة 25 ، 26 ) . صدق الله العظيم
ليس الموت شرًّا محضًا خاليًا من المنفعة !!!
فمن الموت تولد الحياة
وخشية الموت تولد معرفة قيمة الحياة
والحق سبحانه وتعالى قد خلق الموت والحياة ليبلونا أيّنا أحسن عملا !
من سنن الوجود
أن الشر لا ينقطع من العالم !
ومن فضل الله ورحمته
أن لطفه غالب
سبحانه
لا يترك أحدًا من عباده
دون أن يدركه بلطفه ورحمته !