معاملات الإسلام
نشر بجريدة الشروق الخميس 6 / 1 / 2022
ـــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية
قامت المعاملات فى الإسلام على العدل والمساواة ، والتزمت بمبدأ أن الأصل فى الأشياء الإباحة ما لم يرد عليها تحريم ، فإن لم يرد تبقى على إباحتها ولو كانت قائمة على عرف ثابت من قبل الإسلام ، ولم يمنع الإسلام قط معاملة بين الناس تنفعهم وتخلو من الإضرار بأحدٍ أو بفريقٍ منهم . ولم يفرض جزاءً إلاَّ « حدودًا » مقدرة ، القاعدة أن تدرأ بالشبهة ، سواء فى أركان الجريمة ، أو فى أدلة إثباتها .
ولم يحرم الإسلام شيئًا نافعًا بريئًا من الضرر والغبن فى معاملات المصارف والشركات .
حكم الربا :
ولم تُثر شبهة فى المعاملات الاقتصادية إلاَّ فى مسألة الربا , والربا محرم أشد التحريم فى اليهودية والمسيحية من شرائع العهد القديم إلى شرائع الكنيسة فى العصور الوسطى إلى شعائر اللوثريين وأتباعهم بعد عصر الإصلاح .
والربا محرم تحريمًا باتًّا فى أسفار العهد القديم المنسوبة إلى موسى عليه السلام ، فجاء فى الإصحاح الثانى والعشرين من سفر الخروج :
« إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي . لا تضعوا عليه ربا » (الخروج 22 :25 ) .
وجاء فى الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية :
« لا تقرض أخاك بربا ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا . للأجنبى تقرض بربا ، ولكن لأخيك لا تقرض بربا » (التثنية 23: 19 ، 20)
وسرى هذا التحريم إلى عهد النبى حزقيال والنبى نحميا , ولكن الملحوظ فى عبارة نحميا وفيما جاء بالإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية ، أن الربا مباح مع الأجنبى ، ومحرم فيما بين اليهود !
وعلى ذلك فلم يكن هذا التحريم للربا ، تحريمًا إنسانيًا منبعثًا عن شعور بالرحمة والعدل ، وإنما تحريم عصبية فيما بين اليهود ، ويبيحه قسوة على أبناء الأمم الإنسانية كافة .
ثم سرى تحريم الربا ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ من أوائل عهد المسيحية ، إلى قيام حركة الإصلاح وانشقاق الكنائس عن كنيسة روما البابوية ، فاتفقت الكنائس جميعًا على تحريم الربا , واشتد « لوثر» فى هذا التحريم حتى إنه وضع رسالة عن التجارة والربا حرم فيها كثيرًا من البيوع الربوية كالبيع المعروف فى الفقه الإسلامى باسم بيع « النجش » أو باسم « بيع السلم » . والنجش هو التواطؤ على رفع السعر لإكراه الآخرين على قبول الشراء بسعر أعلى من سعر السوق ، والسلم هو بيع الآجل بالعاجل بزيادة فى سعر المبيع .
الربا والحالة النفسية
ومسألة الربا ، من المسائل التى خاضها « لوثر » فى حركته الإصلاحية ، وبلغ فى حرصه على تحريم الربا أن ألحق به البيوع المريبة .. وعدها من الربا الممنوع أو الملعون ..
وساهم فى زيادة توجس المسلمين من هذه المصارف والشركات ، أنها التى مهدت للامتيازات الأجنبية التى نصبت شباك الديون للغزو والاحتلال باسم المحافظة على الحقوق وضمان سدادها ..
على أن الإسلام نفسه قد ظهر فى إبان حالة نفسية تشبه ـ على نحو ما ـ الحالة التى أصابت الغرب بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، والحالة التى أصابت المسلمين على أيدى المستعمرين والمستغلين .. وقد كان ما حرمه الإسلام من الربا ـ بلاء كهذا البلاء الذى شقيت به شعوب الغرب وشقيت به الشعوب الشرقية والإسلامية .. فقد كان ربا الجاهلية حقيقًا بالتحريم ، لأنه كان استغلالاً بغير هوادة تبيح للمحتال أن يتسلل بذرائعه وحيله للاستيلاء على أموال الغير .
عن « الأضعاف المضاعفة » التى كانت تؤكل بها أموال الغير ، ورد بالقرآن الحكيم : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » ( آل عمران 130 ) .
وكان آخر ما نزل من القرآن الكريم فى تحريم الربا ، قبل وفاة النبى عليه الصلاة والسلام بأقل من ثلاثة أشهر ، فى قوله سبحانه وتعالى فى سورة البقرة : « الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ » ( البقرة 275 ـ 281 ) .
لا خلاف بين المسلمين على أن موضوع الربا الذى نزلت فيه جميع الآيات ، هو ربا الجاهلية و المعروف بربا « النسيئة » ، ولا موضع لخلاف بشأنه فى أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام وأقوال المفسرين .. وخلاصة الحديث النبوى فى قوله عليه الصلاة والسلام : « إنما الربا فى النسيئة » .
وقد سئل الإمام أحمد عن الربا الذى لا شك فيه ، فقال : هو أن يكون له دين فيقول له ( للمدين ) أتقضى أم تربى ؟ فإن لم يقضه زاده فى المال وزاده هذا فى الأجل .
وقسم الإمام ابن القيم الربا إلى : جلى ، وخفى . فتحريم الجلى قصد ، وتحريم الخفى وسيلة ، فأما الجلى فربا النسيئة ، وأما الخفى فهو ذريعة لذلك الربا الجلى وهو ما استحدث بعد الجاهلية من بيع الجنس بالجنس على غير سواء . فيباع الدرهم بدرهم وزيادة أو تباع الكيلة بالكيلة وزيادة ، دون مطال أو تأخير اجتنابًا لحكم التحريم القاطع فى ربا النسيئة . ويسمى هذا الربا « بربا الفضل » لزيادة أحد المبيعين على الآخر ، والذى يتخذ ذريعة للربا الممنوع ، ومن ثم فهو حرام .
وقد حرم النبى عليه الصلاة والسلام هذا التحايل ، بتحريم الربا الذى ستروه باسم البيع والشراء .. بألاّ يكون التبايع صنفًا بصنف مثله على غير سواء ، فلا يتبايع أحد بهذا الشكل إلاَّ إن كان سفيهًا أو مضطرًّا .. والسفه والاضطرار كلاهما مبطل للبيع .. ولذلك جاء فى حديث النبى عليه الصلاة والسلام أنه إذا اختلف الصنفان قيمة فلا حرج فى المبايعة لأنهما يختلفان بالمقايضة ، ومن ثم فلا وجه للتحريم هنا ولا القياس بين البيع المحلل والربا الممنوع .
الصلة قائمة بين العبادات والعاملات فى الإسلام , حتى قيل « الدين المعاملة » ــ بهذين الجناحين يستوى للإنسان نهوضه بالعبادات , ومراعاة الدين فى معاملاته . وليس أنسب ــ فى نظرى ـــ للإنسان من هذا التضافر فى الدين بين العبادات والمعاملات .