لم يكن سفر محمد بك فريد إلى منفاه الاضطرارى ـ لم يكن نهاية لكفاحه الوطنى ، بل استأنفه بقوة من خارج البلاد ، وكان لذلك أثر محمود منذ تعطل وصول الجهاد الوطنى إلى أوروبا لدى اشتعال الحرب العظمى ـ الحرب العالمية الأولى سنة 1914 ، ذلك أن وجود محمد بك فريد فى الخارج ، قد أتاح له مواصلة كفاحه الوطنى وإسماع العالم من قلب أوروبا صوت مصر وقضاياها .
استأنف شهيد الوطنية جهاده فى أوروبا ، فحضر مؤتمر السلام الذى عقد بجنيف اعتبارًا من 22 سبتمبر 1912 ، وبسط فى خطبته أحوال ومطالب مصر ، وتأسيسه فيها جمعية السلام العام بوادى النيل ، والتى اعتمدتها اللجنة الدائمة بمدينة « برن » ضمن جمعيات السلام المرتبطة بالمؤتمر ، ووزع على أعضاء اللجنة مجموعة أعمال المؤتمر الوطنى المصرى الذى انعقد فى بروكسل فى سبتمبر 1910 ، وكان لمحمد فريد الفضل فى اعتناق « جنيف » للمسألة المصرى ، وأعرب للمؤتمر عن أمله وحق مصر فى أن يجلو الاحتلال البريطانى عنها فى أقرب وقت ، وأن يعاد تأسيس حكومة ذاتية فى مصر تتحقق فيها الضمانات الكفيلة بحفظ المصالح الدولية والأهلية .
ومن مصر التى تابعت هذا المؤتمر ، طارت البرقيات إلى محمد فريد مهنئة مباركة معبّرة عن الإعجاب بما نهض به فى المؤتمر وأدّاه ، ومن أقطاب الحزب الوطنى ( القديم ) الذين أرسلوا التأييد والتهانى ، النقيب المؤرخ عبد الرحمن الرافعى ، ومحمد عبد الملك حمزة المحامى ، وإسماعيل حافظ مدير جريدة « العَلَم » التى صارت لسان الحزب الوطنى إزاء ملاحقات جريدة « اللواء » ، ومحمد زكى على المحامى ، ومصطفى الشوربجى المحامى بطنطا ، وإسماعيل كامل المحامى ـ وغيرهم .
ومن جنيف إلى المؤتمر الذى عقد فى السويد ، ونشرت عنه جريدة « العَلَم » يوم 3 نوفمبر 1912 ، وتواصل محمد فريد فى ستوكهلم مع معالم الحضارة ومنشآت البر ، وأرسل من هناك مقالاته إلى مصر ، تنقل إلى المصريين كل ما يلقاه ويشاهده ، ومن السويد طار إلى بلجيكا فى 7 نوفمبر 1912 .
وكان من أسفٍ ، أن السلطات عطلت « اللواء » نهائيًّا فى 31 أغسطس 1912 ، وعطلت نهائيًّا جريدة « العَلَم » التى حلّت محلها اللواء فى 7 نوفمبر 1912 ، وتابع محمد فريد كفاحه من الخارج وأفشل محاولات الخديو ضرب المدارس التى أنشأها الحزب ورعاها ، وأفشل محاولة الخديو فصله من عضوية نادى المدارس وأهدى إلى النادى مكتبته القيمة ، وواجه الانقسامات التى بدأت تحدث بالحزب وحول جريدة « اللواء » ، التى شبَّ نزاع بين الورثة على وراثتها .
فلم تخلُ نهاية عام 1912 من محاولات ضرب محمد فريد ، فانتهزت الحكومة فرصة رحيله ، لتقطع صلته بنادى المدارس العليا والحركة التعاونية ، فطلبت من عزت بك شكرى رئيس النادى محو اسم « محمد فريد » من عداد أعضائه ، بقالة إنه بعد الحكم عليه صار ( مجرمًا ) ، ولكن الرجل أبَى ، فهددوه بإغلاق النادى إذا لم ينفذ المطلوب فى أسبوع ، فاضطر الرجل إلى عرض الأمر على مجلس إدارة النادى الذى رفض بالإجماع هذا الطلب ، فاضطرت الحكومة للسكوت إزاء هذا الإصرار .
وامتدت هذه المشاكسات السلطوية إلى مطالع سنة 1913 ، وإنعكس ذلك على الحزب ، فلأول مرة لم تنعقد جمعيته العمومية ، ولم ينظم كالمعتاد الاحتفال بذكرى مصطفى كامل ، ومنعت الحكومة إقامة سرادق الاحتفال بالمولد النبوى .
إلاَّ أن محمد فريد لم يفقد عزيمته رغم كـل ما يواجهـه ، ونجـح بتحركاته واتصالاته مع الشرقيين ، فى تأسيس « جمعية الترقى الإسلامية » وتعاون معه « ميرزا سعيد بيك » ، وتتلخص غاية الجمعية فى تقوية رابطة التضامن بين الأمم الإسلامية ، وبعث روح النهضة الفكرية والاقتصادية فيها ، وقد كان ، ونجحت الجمعية ، وأصدرت مجلة من جنيف باللغة الفرنسية ، وقد نشر الرافعى نموذجًا من أعدادها فى كتابه عن محمد فريد .
وسافر فى أواخر فبراير 1913 إلى الآستانة ، بعد سقوط وزارة كامل باشا ، وتأليف وزارة محمود شوكت باشا ، واطمئنانه إلى أن الحكومة التركية لن تسلمه إلى سلطات الاحتلال كما فعلت من قبل مع الشيخ عبد العزيز جاويش ، إلاَّ أن الرحلة لم تخلُ من مصاعب واجهته فصمد لها رغم حرج موقفه .