محامي الغلابة

كتب/ الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي

 

في يوم الثلاثاء الموافق الثامن والعشرين من شهر يوليو 2020م، توفي الدكتور محمد مشالي، المعروف شعبياً وإعلامياً باسم «طبيب الغلابة»، عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً. وغير خاف على أحد سبب التسمية سالفة الذكر، حيث اشتهر على نطاق واسع أن الطبيب المتوفى قد أفنى سنوات عمره في علاج الفقراء.

وظلت قيمة الكشف الذي يتقاضاه من مرضاه خمسة جنيهات فقط حتى وقت قريب، ولم يرفعها إلى عشرة جنيهات سوى قبل وفاته بعامين فقط. وإذا كان المريض معدماً، لا يدفع أي مقابل على الإطلاق، بل وقد يحصل على العلاج مجاناً أيضاً.

وبسؤاله في بعض البرامج التليفزيونية عن السبب وراء هذا النهج الذي اتبعه طيلة حياته، أرجع الدكتور محمد مشالي ذلك إلى وصية والده الذي أوصاه خيراً بالفقراء.

كذلك، أرجع الدكتور محمد مشالي نهجه في خدمة الفقراء إلى تأثره بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، حيث تأثر بكتاباته عن الفقراء والمحتاجين، ولاسيما روايته «المعذبون في الأرض».

ويبدو أيضاً أن أحد الأسباب التي تفسر لنا تعاطفه مع الفقراء وحبه لهم والعمل على خدمتهم يكمن في قصة التحاقه بكلية الطب، حيث ذهب مع والده للتقديم في كلية طب القصر العيني، وعندما وجد والده أن رسوم دراسة الطب مرتفعة، أحجم الوالد عن تنفيذ هذه الفكرة، ولكن ولحسن الحظ، فقد أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في ذات اليوم قراره بمجانية التعليم، الأمر الذي أدى إلى تحقيق حلم الطالب محمد مشالي في الالتحاق بكلية الطب.

 

وهكذا، كانت رسالة الدكتور محمد مشالي الحياتية هي خدمة الفقراء، وقد سخر حياته كلها لتحقيق هذه الرسالة. ورغم تقدمه في العمر، كان يعمل لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً، لمساعدة أكبر عدد من المرضى الفقراء، في ثلاث عيادات مختلفة، كلها تقع في مناطق ريفية شعبية في محافظة الغربية بمنطقة الدلتا.

وإذا كان الطب هو مهنة علاج المرضى وكفالة حقهم في الصحة والحياة، فإن المحاماة هي المهنة التي تكفل حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم، ومن هذه الحقوق الحق في الصحة والحق في الحياة. وهكذا، تتشارك مهنة المحاماة مع مهنة الطب في هذه الناحية.

ومن ثم، يبدو مستساغاً الاعتقاد بأنه لو لم يتسن للدكتور محمد مشالي الالتحاق بكلية الطب، فإن الاختيار التالي له يمكن أن يكون كلية الحقوق.

وهكذا، يبدو منطقياً ومقبولاً ما ذكرته إحدى الصحف العربية من أن أمنية الدكتور مشالي قبل المرحلة الجامعية كانت أن يصبح محامياً، ولكنه دخل كلية الطب ليحقق حلم والده الذي لم تسعفه الظروف لتحقيقه (راجع: صحيفة البيان الالكتروني، دبي، الأربعاء الموافق 29 يوليو 2020م، خبر تحت عنوان: معلومات لا تعرفها عن طبيب الغلابة الدكتور محمد مشالي).

 

ولو تخيلنا أن الطالب محمد مشالي قد التحق بكلية الحقوق، وتخرج منها ممارساً مهنة المحاماة، فإن محامياً بهذه الصفات والسمات الإنسانية التي تميز بها، كان لقبه سيتغير من «طبيب الغلابة» إلى «محامي الغلابة» أو «محامي الفقراء» أو «محامي الإنسانية». والمقابل الحديث لهذا التوصيف في الأدبيات القانونية الحديثة هو تعبير «المسئولية المجتمعية للمحامي».

والأساس القانوني لهذه المسئولية المجتمعية يتمثل في المادة الرابعة والستين من قانون المحاماة المصري رقم (17) لسنة 1983م، والتي توجب «على المحامي تقديم المساعدات القضائية للمواطنين غير القادرين وغيرهم في الحالات التي ينص عليها هذا القانون وعليه أن يؤدي واجبه عمن يندب للدفاع عنه نفس العناية التي يبذلها إذا كان موكلاً.

ولا يجوز للمحامي المنتدب للدفاع أن يتنحى عن مواصلة الدفاع إلا بعد استئذان المحكمة التي يتولى الدفاع عنها وعليه أن يستمر في الحضور حتى تقبل تنحيته وتعيين غيره».

 

ويكرس قانون المحاماة الفصل الرابع منه للمساعدات القضائية، حيث تنص المادة الثالثة والتسعون على أن «تقوم مجالس النقابة الفرعية بتشكيل مكاتب تابعة لها لتقديم المساعدات القضائية لغير القادرين من المواطنين في دائرة اختصاص كل منها.

وتشمل هذه المساعدات القضائية رفع الدعاوى والحضور فيها وفي تحقيقات النيابة العامة وإعطاء المشورة القانونية وصياغة العقود. ويصدر مجلس النقابة العامة نظاماً لمكاتب المساعدات القضائية يبين كيفية ترتيب المحامين بهذه المكاتب والمكافآت التي تدفع لهم وشروط انتفاع المحامين بخدماتها».

وتضيف المادة الرابعة والتسعون من قانون المحاماة المصري أنه «مع عدم الإخلال بحكم المادة السابقة يندب مجلس النقابة الفرعية محامياً للحضور عن المواطن الذي يتقرر إعفاءه من الرسوم القضائية لإعساره، ويقوم المحامي المنتدب بالدفاع عنه أمام القضاء بغير اقتضاء أي أتعاب منه».

وتنص المادة الخامسة والتسعون على أنه «إذا رفض عدة محامين قبول الوكالة في دعوى من الدعاوى التي يتطلب القانون اتخاذ الإجراءات القانونية فيها عن طريق مكتب محام يندب مجلس النقابة الفرعية بناء على طلب صاحب الشأن محامياً لاتخاذ الإجراء القانوني والحضور والمرافعة ويحدد مجلس النقابة أتعابه بموافقة صاحب الشأن».

 

وتعبير «المسئولية المجتمعية للمحامي» أوسع نطاقاً من دلالة «محامي الغلابة»،  وبيان ذلك أن «المسؤولية المجتمعية» تشمل كل فعل أو سلوك نافع تجاه المجتمع في مجموعه، متى اتخذ هذا السلوك النافع شكل التبرع، سواء كان هذا التبرع نقدياً أو عينياً أو كان تبرعاً بالخدمة، دون أن يكون ذلك قاصراً على الفقراء دون غيرهم.

وفي مجال المحاماة والاستشارات القانونية، فإن المسئولية المجتمعية قد تتخذ شكل إنشاء موقع الكتروني مجاني يقدم الاستشارات القانونية مجاناً لكل من يطلبها، سواء كان مقتدراً أو غير مقتدر.

وقد تتخذ المسئولية المجتمعية شكل تدشين موقع الكتروني لتوفير المعلومات القانونية مجاناً ورفع مستوى الوعي القانوني في المجتمع.

والمسئولية المجتمعية قد تكون موجهة لغير ممارسي المهنة، وقد تتجه إلى الزملاء الآخرين ممن يمارسون المهنة ذاتها، بحيث تتخذ شكل التضامن والتكافل بين المحامين أنفسهم.

فعلى سبيل المثال، ووفقاً للمادة السادسة والتسعين من قانون المحاماة المصري، «في حالة وفاة المحامي أو استبعاد اسمه أو محوه من الجدول أو تقييد حريته وبصورة عامة في جميع الأحوال التي يستحيل فيها عليه ممارسة المحاماة ومتابعة أعمال ودعاوى موكليه يندب مجلس النقابة الفرعية محامياً من نفس درجة القيد على الأقل ما لم يختر المحامي أو ورثته محامياً آخر تكون مهمته اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة على مصالح الموكلين وتصفية المكتب إذا كان لذلك مقتض وتتم هذه التصفية بموافقة ذوي الشأن وتحت إشراف مجلس النقابة الفرعية».

كذلك، يمكن أن تتخذ المسئولية المجتمعية شكل الإسهام المؤثر والفعال في تدريب المحامين تحت التمرين أو تقديم يد العون للمحامين المبتدئين.

وربما يكون من المناسب أيضاً تشجيع مكاتب المحاماة على تزويد المحامين تحت التمرين باللغات الأجنبية.

ومن صور المسئولية المجتمعية أيضاً، نذكر أيضاً قيام مكاتب المحاماة بتدريب طلاب القانون، بحيث تبدأ مسيرة التأهيل بالنسبة لهم أثناء الدراسة، ولا يتم الانتظار حتى تخرجهم، وذلك على النحو المعروف في العديد من الدول الأجنبية.

وفي هذا الإطار، أرى من الضروري الإشارة إلى أن أحد المكاتب الأجنبية الكبرى في عالم المحاماة أطلق في شهر أكتوبر 2019م تدريباً افتراضياً لطلبة كليات القانون.

 

بقي أن نشير إلى دور النقابة في الإشراف على توفير المساعدات القضائية من خلال المحامين المنتسبين إليها، حيث تنص المادة السابعة والتسعون من قانون المحاماة المصري على أن «يكون ندب المحامين في الحالات السابقة بالدور من الكشوف السنوية التي تعدها النقابة الفرعية لهذا الغرض من بين المحامين المقيدين أمام محاكم الاستئناف أو المحاكم الابتدائية الذين يزاولون المهنة استقلالاً وبقرار من مجلسها، وفي حالة الاستعجال يصدر القرار من نقيب النقابة الفرعية، ويجوز لمجلس النقابة وحده الاستثناء من الدور نظراً لطبيعة الدعوى أو بناء على طلب المحامي الذي يتولى إجراءات إعفاء موكله المعسر من الرسوم. ويجب على المحامي المنتدب أن يقوم بما يكلف به ولا يسوغ له أن يتنحى إلا لأسباب تقبلها الجهة التي تندبه».

وفي تطبيق هذا النص، نرى من الملائم أن تقوم كل نقابة فرعية بإعداد سجل، يمكن أن يطلق عليه تعبير «سجل العطاء» أو «سجل التطوع» أو «سجل المسئولية المجتمعية»، يشمل المحامين الراغبين في التطوع بمجهودهم في الدفاع عن المتقاضين غير القادرين، وبحيث يتم تكريم أكثر المحامين عطاءً، بشكل سنوي، على مستوى النقابات الفرعية، ثم على مستوى النقابة العامة بعد ذلك.

وفي إطار التحول الرقمي الذي يشهده العالم أجمع والنظام القضائي بوجه خاص، نرى من المناسب أن يكون هذا السجل الكترونياً، لضمان دقة وشفافية النتائج.

كذلك، نرى أن يتم التعويل ليس فقط على عدد القضايا التي قبل المحامي الترافع فيها مجاناً، وإنما يتم النظر كذلك إلى عدد القضايا التي أسهم بجهده في إعادة الحق إلى أصحابه من المتقاضين غير المقتدرين. وغني عن البيان أن ذلك من شأنه أن يسهم في إبراز الصورة الناصعة لمهنة المحاماة، وتعزيز النظرة الإيجابية لها عند المواطنين.

 

وأخيراً، يلاحظ أن المادة 187 من قانون المحاماة المصري توجب «على المحكمة من تلقاء نفسها وهي تصدر حكمها على من خسر الدعوى أن تلزمه بأتعاب المحاماة لخصمه الذي كان يحضر عنه محام بحيث لا تقل عن خمسة جنيهات في الدعاوى المنظورة أمام المحاكم الجزئية فيما عدا الدعاوى المستعجلة وعشرة جنيهات في الدعاوى المنظورة أمام المحاكم الابتدائية والإدارية والدعاوى المستعجلة الجزئية وعشرين جنيهاً في الدعاوى المنظورة أمام محاكم الاستئناف ومحاكم القضاء الإداري وثلاثين جنيهاً في الدعاوى المنظورة أمام محكمة النقض والإدارية العليا والدستورية العليا.

وعلى المحكمة أن تحكم بأتعاب المحاماة في الدعوى الجنائية التي يندب فيها محام بحيث لا تقل عن عشرة جنيهات في دعاوى الجنح المستأنفة وعشرين جنيهاً في دعاوى الجنايات وخمسين جنيهاً في دعاوى النقض الجنائي».

ومن ثم، وحيث إن المحكمة تلتزم بالحكم بأتعاب المحاماة في الدعوى الجنائية التي يندب فيها محام، قد يعتقد البعض أن المحامي المتطوع أو المتبرع أو المنتدب قد يتقاضى أتعابه، إذا نجح في كسب القضية لصالح موكله، من خلال إلزام خاسر الدعوى بأتعاب المحاماة، وكذلك في الدعاوى الجنائية التي يندب فيها محام.

والرد على ذلك يتمثل في المادة 188 من قانون المحاماة، بنصها على أن «تؤول إلى الصندوق أتعاب المحاماة المحكوم بها في جميع القضايا طبقاً للمبين في الفقرة الأولى من المادة السابقة وتأخذ هذه الأتعاب حكم الرسوم القضائية وتتولى أقلام الكتاب تحصيلها لحساب الصندوق بذات القواعد المقررة لتحصيل الرسوم بمقتضى قوانين الرسوم القضائية وتخصص من الأتعاب المحصلة نسبة 5% لأقلام الكتاب والمحضرين ويكون توزيعها فيما بينهم طبقاً للقواعد التي يضعها وزير العدل بقرار منه».

وإذا كان الحكم سالف الذكر قاصر فقط على أتعاب المحاماة المحكوم بها طبقاً للفقرة الأولى من المادة 187 من قانون المحاماة، فلا يمتد إلى أتعاب المحاماة في الدعوى الجنائية التي يندب فيها محام، فإن المبلغ المحكوم به – وكما هو واضح من النص – زهيد جداً، ولا يشكل حافزاً لأي محام للإقبال على قبول هذه المهمة، الأمر الذي يدل بشكل جلي على أن الدافع الأخلاقي هو المحرك الأساسي للمحامي في مثل هذه الحالات، والله من وراء القصد.

 

زر الذهاب إلى الأعلى