متى تكون أسباب الحكم مشوبة بالفساد في الاستدلال؟.. «النقض» تجيب

أكدت محكمة النقض في حكمها بالطعن رقم 18962 لسنة 85، أن أسباب الحكم تعتبر مشوبة بالفساد في الاستدلال إذا انطوت على عيب يمس سلامة الاستنباط أو ابتناء الحكم على فهم حصلته المحكمة مُخالفًا لِما هو ثابت بأوراق الدعوى، ويتحقق ذلك إذا استندت المحكمة في اقتناعها إلى أدلة غير صالحة من الناحية الموضوعية للاقتناع بها أو إلى عدم فهم الواقعة التي ثبتت لديها أو استخلاص هذه الواقعة من مصدرٍ لا وجود له أو موجود ولكنه مناقض لِما أثبته.

 

تتحصل الوقائع في أن الطاعنة عن نفسها وبصفتها وصية على ولديها القاصرين أقامت على المطعون ضدهم – عدا الأخير – الدعوى رقم ١١٤٣ لسنة ٢٠١٤ أمام محكمة أسيوط الابتدائية بطلب الحكم بإلزامهم بالتضامن بأن يؤدوا لها مبلغ ثلاثمائة ألف جنيه تعويضًا ماديًّا وأدبيًّا وموروثًا عما لحقها من أضرار جراء وفاة مورثها.

 

وذلك على سندٍ من أنه بتاريخ ٢٢ / ١ / ٢٠١٢ وحال عمله كطبيبٍ بمستشفى الشرطة كُلِّف بالانتقال لمحافظة قنا لتوقيع الكشف الطبي على الخفراء الجدد بمقر قوات أمن قنا، واستأجرت جهة عمله السيارة رقم ٥٠٩٥٨ أجرة أسيوط لنقله وزملائه، إلَّا أن المطعون ضده الرابع (قائدها) تسبب بخطئه في موت مورثها، وضُبط عن تلك الواقعة المحضر رقم ٩٥٤ لسنة ٢٠١٢ جنح مركز الفتح، وأُدين فيه بحكم جنائيٍّ نهائيٍّ وإلزامه بأن يؤدي لها مبلغًا مقداره واحد وخمسون جنيهًا على سبيل التعويض المؤقت، وإذ لحقها من جراء ذلك أضرارٌ مادية وأدبية وموروثة يُقدر التعويض الجابر لها بالمبلغ المطالب به، فقد أقامت الدعوى. وبموجب صحيفة معلنة أَدخلت الطاعنةُ المطعونَ ضده الرابع خصمًا في الدعوى لِيصدر الحكم في مواجهته، والمحكمة حكمت برفضها.

 

استأنفت الطاعنة هذا الحكم بالاستئناف رقم ٥٧٢ لسنة ٩٠ ق أمام محكمة استئناف أسيوط، وبتاريخ ٩ / ٩ / ٢٠١٥ قضت المحكمة بتأييد الحكم المستأنف.

 

طعنت الطاعنةُ في هذا الحكم بطريق النقض، وقدمت النيابة مذكرة دفعت فيها بعدم قبول الدعوى لرفعها على غير ذي صفة بالنسبة للمطعون ضدهم من الثاني حتى الرابع وأبدت رأيها برفض الطعن. عُرض الطعنُ على هذه المحكمة في غرفة مشورة، فرأت أنه جديرٌ بالنظر، وحددت جلسةً لنظره، والتزمت النيابة رأيها.

 

وَحَيْثُ إنَّ مبنى الدفع المُبدى من النيابة بعدم قبول الطعن بالنسبة للمطعون ضدهما الثاني والثالث بصفتيهما لرفعه على غير ذي صفة لكون المطعون ضده الأول (وزير الداخلية) هو الذي يمثل وزارته أمام القضاء، وبالنسبة للمطعون ضده الرابع أنه اُختصم لِيصدر الحكم في مواجهته.

 

وَحَيْثُ إنَّ هذا النعي في محله؛ ذلك أن من المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أن تمثيل الدولة في التقاضي هو نوع من النيابة القانونية عنها، والمرد في تعيين مداها وحدودها يكون بالرجوع إلى مصدرها وهو حكم القانون، وأن الوزير بحسب الأصل هو الذي يمثل الدولة في الشئون المتعلقة بوزارته، وذلك بالتطبيق للأصول العامة باعتباره المتولي الإشراف على شئون وزارته والمسئول عنها الذي يقوم بتنفيذ السياسة العامة للحكومة، إلَّا إذا أسند القانون صفة النيابة فيما يتعلق بشئون هيئة أو وحدة إدارية معينة إلى غير الوزير، فيكون له عندئذٍ هذه الصفة بالمدى والحدود التي بيَّنها القانون.

 

كما أنه من المقرر –أيضًا – أنه لا يُقبل الطعنُ ضد من لم توجه إليه طلبات ولم يُحكم عليه بشيءٍ ولا تتعلق به أسباب الطعن؛ إذ لا يكون له مصلحة في الدفاع عن الحكم.

 

لمَّا كان ذلك، وكان المطعون ضدهما الثاني والثالث بصفتيهما لا يمثلان وزارة الداخلية أو أيًا من أجهزتها أمام القضاء، إنما يمثلها فقط المطعون ضده الأول بصفته، وكان المطعون ضده الرابع إنما اُختصم لِيصدر الحكمُ في مواجهته دون أن تُوجَّهَ له أيةُ طلباتٍ أو يُقضى له أو عليه بشيءٍ، ومن ثم يكون اختصام سالفي الذكر غير جائز، ويضحى الدفع في محله.

حَيْثُ إنَّ الطَّعْنَ – فيما عدا ما تقدَّمَ – قد اسْتَوْفَى أَوْضَاعَهُ الْشَّكْلِيَّةَ.

 

وَحَيْثُ إنَّ حاصل ما تنعاه الطاعنة على الحكم المطعون فيه مخالفة القانون والخطأ في تطبيقه؛ إذ قضى بتأييد حكم أول درجة القاضي برفض الدعوى على قالة أن الأوراق خلت مما يدل على وجود علاقة تبعية فيما بين المطعون ضده الأول (وزير الداخلية) والمطعون ضده الرابع (قائد السيارة مرتكبة الحادث) لعدم وجود عقد إيجار، على الرغم من أن الثابت من أوراق الجنحة رقم ٩٥٤ لسنة ٢٠١٢ جنح مركز الفتح أن مستشفى الشرطة (جهة عمل مورثها)، والتي يمثلها المطعون ضده الأول أصدرت أمرًا إلى مورثها بالانتقال إلى محافظة قنا لتوقيع الكشف الطبي على الخفراء والمجندين الجدد، واستأجرت لهذه المهمة السيارة – أداة الحادث – والتي انقلبت إثر خطأ قائدها – المطعون ضده الرابع – مما أصاب مورثها بالإصابات التي أودت بحياته، وضُبط عن تلك الواقعة المحضر رقم ٩٥٤ لسنة ٢٠١٢ جنح مركز الفتح الذي أُدين فيه قائدُ السيارة سالف البيان، بما يتوافر معه علاقة التبعية فيما بين المطعون ضدهما الأول والرابع، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر، فإنه يكون معيبًا بالخطأ في تطبيق القانون، بما يستوجب نقضه.

 

وَحَيْثُ إنَّ هذا النعي سديدٌ؛ ذلك بأنه من المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أنه يتعين على محكمة الموضوع من تلقاء نفسها، وفي كل الأحوال، أن تحدد الأساس الصحيح للمسئولية، وأن تتقصى الحكم القانوني المنطبق على العلاقة بين طرفي دعوى التعويض، وأن تنزله على الواقعة المطروحة عليها؛ باعتبار أن كل ما تولد به للمضرور من حق في التعويض عما أصابه من ضرر قِبَلَ مَنْ أحدثه أو تسبب فيه، إنما هو السبب المباشر المُولد للدعوى بالتعويض، مهما كانت طبيعة المسئولية التي استند إليها المضرور في تأييد طلبه، أو النص القانوني الذي اعتمد عليه في ذلك؛ لأن هذا الاستناد يعتبر من وسائل الدفاع في دعوى التعويض التي يتعين على محكمة الموضوع أن تأخذ منها ما يتفق وطبيعة النزاع المطروح عليها، وأن تُنزِل حكمه على واقعة الدعوى، ولا يُعد ذلك منها تغييرًا لسبب الدعوى أو موضوعها.

 

وكان مفاد نص المادتين ١٧٤، ١٧٥ من القانون المدني أن مسئولية المتبوع عن أعمال تابعه غير المشروعة هي مسئولية تبعية مقررة بحكم القانون لمصلحة المضرور، ويُعتبر المتبوع في حكم الكفيل المتضامن كفالة مصدرها القانون وليس العقد، ومن ثَمَّ فإن للمتبوع الحق في أن يرجع على تابعه محدث الضرر بما يفي به من التعويض للمضرور؛ لأنه مسئول عنه وليس مسئولًا معه، وتقوم علاقة التبعية بين المتبوع وتابعه كلمَّا كان للمتبوع سلطة فعلية على التابع في الرقابة والتوجيه، ولو كانت هذه الرقابة قاصرة على الرقابة الإدارية.

 

كما تقوم علاقة التبعية على توافر الولاية في الرقابة والتوجيه، بحيث يكون للمتبوع سلطة فعلية في إصدار الأوامر إلى التابع في طريقة أداء عمله وفي الرقابة عليه في تنفيذ هذه الأوامر ومحاسبته سواءً عن طريق العلاقة العقدية أو غيرها وسواءً استعمل المتبوع هذه السلطة أو لم يستعملها طالما كان في استطاعته استعمالها، ومن ثم فإن قوام علاقة المتبوع للتابع هو ما للمتبوع على التابع من سلطة فعلية في توجيهه ورقابته، ويكفي لتحققها أن يقوم بها تابع آخر نيابةً عنه ولحسابه، ولا يُشترط أن تكون هذه التبعية دائمةً، بل يجوز أن تكون موقوتةً، ويُشترط لقيام مسئولية المتبوع فضلًا عن توافر رابطة التبعية أن يقع من التابع خطأٌ يسبب ضررًا للغير، وأن يقع هذا الخطأ من التابع حال تأدية وظيفته أو بسببها.

 

وكان المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أن وصف الفعل بأنه خطأ موجب للمسئولية أو نفي هذا الوصف عنه هو من المسائل القانونية التي يخضع قضاء الموضوع فيها لرقابة محكمة النقض. وأن تعدد الأخطاء الموجبة بوقوع الحادث يُوجِبُ مساءلةَ كلِّ مَنْ أَسهم فيها أيًا كان قدر الخطأ المنسوب إليه.

 

كما أنه من المقرر– في قضاء هذه المحكمة – أن أسباب الحكم تعتبر مشوبة بالفساد في الاستدلال إذا انطوت على عيب يمس سلامة الاستنباط أو ابتناء الحكم على فهم حصلته المحكمة مُخالفًا لِما هو ثابت بأوراق الدعوى، ويتحقق ذلك إذا استندت المحكمة في اقتناعها إلى أدلة غير صالحة من الناحية الموضوعية للاقتناع بها أو إلى عدم فهم الواقعة التي ثبتت لديها أو استخلاص هذه الواقعة من مصدرٍ لا وجود له أو موجود ولكنه مناقض لِما أثبته.

 

لمَّا كان ذلك، وكان الثابت من الأوراق – بلا خلاف عليه بين الخصوم – أن مستشفى الشرطة – والتابعة للمطعون ضده الأول بصفته – والتي كان يعمل بها مورث الطاعنة كطبيب – قد كلَّفت الأخير وأطباءَ آخرين بالانتقال من مدينة أسيوط حيث مقر عمله إلى مديرية أمن قنا لتوقيع الكشف الطبي على الخفراء الجدد، وفي سبيل تنفيذ هذه المأمورية قامت باستئجار السيارة مرتكبة الحادث، واختارت سائقها المطعون ضده الرابع، وكلَّفته بنقلهم إلى حيث الوجهة التي حددتها، والذي لم يكن بوسعه القيام بأية مهمة أخرى أو مخالفة خط السير المحدد، وهو ما تتوافر لها معه تبعية موقوتة بفترة القيام بالمهمة الموكلة إليه حتى الانتهاء منها، وتتحقق بها سلطة الرقابة الإدارية عليه، ولا يحول دون ذلك عدم ممارستها لتلك الرقابة حال كونها قد كان باستطاعتها أن تمارسها.

 

وإذ كان البين من أوراق الدعوى أن خطأ المطعون ضده الرابع (التابع تبعية موقوتة للمطعون ضده الأول بصفته) ثابتٌ من أوراق الجنحة رقم ٩٥٤ لسنة ٢٠١٢ جنح مركز الفتح واستئنافها رقم ٢٤٥٢ لسنة ٢٠١٣ جنح مستأنف أسيوط، والذي أدانه بحكمٍ جنائيٍ باتٍ وقَضى للمطعون ضدها بتعويض مدني مؤقت، بما مفاده أن عناصر المسئولية الموجبة للتعويض من خطأ وضرر وعلاقة سببية قد توافرت في حقه بما لا مجال معه لإعادة بحثها مرة أخرى، وكان ذلك الخطأ قد وقع حال تأدية وظيفته وبسببها، الأمر الذي تتحقق معه أركان مسئولية المتبوع الموجبة للتعويض، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر، وقَضى برفض الدعوى على سندٍ من عدم توافر رابطة تبعية بين المطعون ضده الأول بصفته والمطعون ضده الرابع مُستدلًا على ذلك من عدم وجود عقد إيجار للسيارة مرتكبة الحادث، على الرغم من أن وجود أو عدم وجود العقد لا يؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها من نفي تلك العلاقة، ممَّا حجبه عن بحث وجود تلك الرابطة بين سالفي الذكر، وتمحيص شروطها، وتحقيق دفاع الطاعنة على نحو يعيبه بالقصور، ويوجب نقضه على أن يكون مع النقض الإحالة.

 

لذلك

نقضت المحكمة الحكم المطعون فيه، وأحالت القضية إلى محكمة استئناف أسيوط وألزمت المطعون ضده الأول بصفته المصروفات ومبلغ مائتي جنيهٍ مقابل أتعاب المحاماة.

أمين السر نائب رئيس المحكمة

زر الذهاب إلى الأعلى