مبدأ سلطان الإرادة في القانون

بقلم/محمود عنتر

كثيراً من السادة المحامين ما يكتُب عقوداً ويأتي في صدر البند التمهيدي جملة ” لذا فقد تلاقت إرادة الطرفين” على ماهية العقد ليحكم الرابطة التعاقدية فيما بينهما .

وهنا لنا وقفه لبيان أن مبدأ سلطان الإرادة يدخل في نطاق فلسفة القانون، ويُعد من أهم المبادئ القانونية التي منحت المتعاقدين حرية اختيار إبرام العقود وترتيب آثارها، وهو يقوم عل أساسين، هما الحرية والمساواة، فالحرية هي أساس الفعل الذي يظهر في الإرادة التي تنشئ العقد وتحدد آثاره وتختار ما تشاء من المصالح التي تلائمها وتتوافق عليها وهذا يطلق عليه المذهب الفردي، أما المساواة القانونية وهو الذي يقتضي منع تسلط الطرف القوي في التعاقد على الطرف الضعيف، ومنع الأفراد من الاتفاق أو التعاقد على ما يخالف النظام العام والآداب العامة، أو مقتضيات الخطة الاقتصادية أو الاتجاه العام للمجتمع، وذلك من منطلق أن الصالح العام يعلو المصلحة الفردية وهذا ما يطلق عليه المذهب الجماعي  .

ويتفرع عن مبدأ سلطان الإرادة المبادئ الآتية:

أولا: الالتزامات الإرادية هي الأصل طبقا للنظرية العامة لمبدأ سلطان الإرادة، فإنه لا يقوم أي التزام على شخص إلا إذا ارتضاه، وأنه في حال فرض أي التزامات لا إرادية على الشخص تحقيقا لمصلحة العامة أو حفاظاً على النظام العام والآداب العامة فإنها يجب أن تكون في أضيق الحدود.

ثانيا: مبدأ الرضائية (حرية الشخص في التعاقد وعدم التعاقد) ويقصد به أن إرادة الفرد تكفي وحدها للتعاقد دون أي قيد إلا ما يتطلبه القانون من نظام عام أو مصلحة عامة، ولذلك فإن الشكلية وفقا لهذا المبدأ تعتبر تقييدا للحرية التعاقدية القائمة على الرضائية. ثالثا: حرية المتعاقدين في تحديد آثار العقد أي حرية الأطراف المتعاقدة في تحديد الالتزامات العقدية ومكانها ومداها.

ففي عقد الإيجار مثلاً لإرادة الأطراف الحرية في تحديد مدة العقد وكذلك في تحديد الأجرة التي يُلزم بها المستأجر وهكذا الشأن في سائر العقود. رابعا: مبدأ العقد شريعة المتعاقدين ويقصد به أن يعادل الالتزام الناشئ من العقد في قوته الالتزام الناشئ من القانون، فيكون للعقد قوة ملزمة بحيث لا يجوز لأحد المتعاقدين أن ينفرد بنقضه أو تعديله، فيتعين على المتعاقديْن أن يخضعا لما اشترعاه كخضوعهما لما شرعه القانون، كما يتعين على القاضي رعاية تلك العقود وحمايتها كرعايته للنصوص القانونية، بمعنى أنه إذا طُرح عليه نزاع بشأنها، فإنه يجب عليه تطبيق ذلك الحكم الخاص الذي وضعه المتعاقدان فيما بينهما.

وذهب العلامة السنهوري في شرحه للقانون المدني لبيان الفارق بين الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة حيث قال: إذا لم تختلف الإرادة الداخلية عن مظهرها الخارجي ، فسيان الأخذ بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة ما دام الإثنان متطابقان، أما إذا اختلفتا ـ كما إذا أمضى شخص عقدًا مطبوعًا يتضمن شرطًا كان لا يقبله لو فطن له، وكشخص ينزل في فندق على شروط لا يعملها ولكنها مكتوبة ومعلقة في غرفته، وكمن يوصي على أثاث منزلي بطريق التأشير على بيان مطبوع فإذا به يؤشر على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة استقبال .

فالقاعدة المعروفة في القوانين اللاتينية أن الإرادة الباطنة هي التي يؤخذ بها، ولكنها نظرية حديثة كان للألمان الضلع الأكبر فيها ، تأخذ بالإرادة الظاهرة ، ومن هنا اختلفت المدرسة الألمانية مع المدرسة الفرنسية في العقد كما اختلفتا في الالتزام وكما اختلفتا في نظرتهما العامة للعلاقات القانونية، فالأولى تقف أمام المظاهر المادية المحسوسة فنظرتها موضوعية ( objectif ) ، والأخرى تنفيذ إلى البواطن النفسية فنظرتها ذاتية ( subjectif ) ، فإذا اقتصرنا على العقد رأينا المدرسة الفرنسية تأخذ بالإرادة الباطنة ، وتأخذ المدرسة الألمانية بالإرادة الظاهرة .

1-نظرية الإرادة الباطنة ( volonte interne ) : وهي تبحث عن الإرادة فيما تنطوي عليه النفس، وأما مظهر التعبير عن الإرادة فليس إلا قرينة عليها تقبل إثبات العكس فإذا قام دليل من جهة أخرى على أن المظهر المادي لا يتفق مع الإرادة النفسية ، فالعبرة بهذه لا بذاك، وإذا تعذر الوصول إلى معرفة الإرادة النفسية عن طريق الجزم ، فما على القاضي إلا أن يتعرفها عن طريق الافتراض فالإرادة الحقيقة أولاً ، وإلا فالإرادة المفترضة ـ ولكنها ـ حقيقية أو مفترضة ـ هي الإرادة الباطنة لا الإرادة الظاهرة : الإرادة الحرة المختارة في معدنها الحقيقي، غير متأثرة لا بغش ولا بإكراه ولا بغلط .

2- نظرية الإرادة الظاهرة ( Volonte externe, declaration de volounte ) : في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بحث من بحثهم إلى أن هذه الإرادة النفسية لا يجوز أن يكون لها أثر في القانون فهي شيء كامن في النفس ، والإرادة التي تنتج أثرا هي الإرادة في مظهرها الاجتماعي ، لا في مكمنها وهي تختلج في الضمير . ولا تأخذ الإرادة مظهرًا اجتماعيًا إلا عند الإفصاح عنها .

فالعبرة بهذا الإفصاح ، إذ هو الشيء المادي الذي يستطيع القانون أن يحيط به وأن يرتب أحكامه ، دون حاجة إلى تحسس ما تنطوي عليه النفس من نيات  فإن القانون ظاهرة اجتماعية لا ظاهرة نفسية ، والإرادة الباطنة لا وجود لها إلا في العالم النفسي فإذا أريد أن يكون لها وجود في العالم الاجتماعي، وجب أن تتجسم في المظهر المادي لها ، وهو ما يستطاع إدراكه وفي هذا استقرار للتعامل، وطمأنينة لمن يسكن بحق إلى ما يظهر أمامه من إرادة لا يستطيع التعرف عليها إلا من طريق التعبير عنها.

فلا يحتج عليه بعد ذلك بأن من تعاقد معه كان ينطوي على نية أخرى غير التي تستخلص من الطريق الذي اختاره للتعبير عن هذه النية ، ولا يشترط أصحاب نظرية الإرادة الظاهرة طريقًا خاصًا لمظهر التعبير، فأي مظهر من هذه المظاهر يصح عندهم  وقد يكون هذا المظهر تعبيرا صريحًا أو تعبيرًا ضمنيًا، وقد يكون مجرد السكوت في أحوال خاصة مظهرًا من مظاهر التعبير والمهم عندهم ألا تقتصر الإرادة على عمل نفسي، بل تبرز إلى العالم المادي في علامة ظاهرة، هي التي نقف عندها.

ونقدر الإرادة بقدرها  وهم لا يكتفون من المظهر الخارجي للإرادة بأن يكون مجرد دليل عليها ـ دليل يقبل إثبات العكس إذا تبين من الظروف أن التعبير الخارجي لا يتفق مع الإرادة الداخلية ـ ولو اكتفوا بذلك لاتفقوا مع أصحاب نظرية الإرادة الباطنة ، ولكنهم يذهبون إلى مدى أبعد ، ويعتبرون هذا المظهر الخارجي هو العنصر الأصلي للإرادة ، فيجب الوقوف عنده  وإذا كان لا بد من اعتباره دليل على الإرادة الداخلية ، فهو دليل لا يقبل إثبات العكس، فلا يسمع لشخص يدعي أنه أضمر غير ما أمظهر، ما دام قد أراد هذا التعبير الذي اختاره لإرادته .

والخلاصة أن قدرة الإرادة أو حرية الأفراد في إنشاء التصرف وتحديد آثاره مازالت هي القاعدة، لكن ترد على هذه القاعدة قيود زادت في الوقت الحاضر عما كان مقرراً منها قبل ذلك إلى درجة كبيرة، وترجع هذه الزيادة في القيود التي تحد من سلطان الإرادة الفردية إلى نوعين من الأسباب: أولهما دائم، وهو نشوء قوى اجتماعية جديدة أدت إلى تطور في الأفكار، فظهرت نظريات اجتماعية حديثة ناهضت المذهب الفردي الذي كان سائداً من قبل ، والثاني عارض، وهو نشوب الحروب والأزمات الاقتصادية والاوبئة ككورنا التي تجعل المشرع يتدخل في العقد على نطاق واسع لمواجهتها.

زر الذهاب إلى الأعلى