مبدأ الحق في الاثبات
بقلم: أ. كريم رغيب
الحق في الاثبات من الحقوق الهامة للدفاع وفي كل نظام إجرائي ذي صفة ادعائية يكون من حق كل من الطرفين الدفاع عن ادعاءاته ضد الأدلة المقدمة من الخصم ويكون من شأنها النيل من ادعاءاته أو دحضها.
وهذا الحق مستقل عن الدور الذي يمثله المتقاضي في الدعوى أي سواء كان مدعيا أو مدعيا عليه، وهو مقرر في المبادئ العامة للقانون وتجب مراعاته في جميع الدعاوى وأمام كل قضاء، ومع ذلك فإن الوضع الخاص للطرفين في الدعوى الجنائية وطبيعة المصالح المتصلة بالقضية وروح قرينة البراءة والدور الذي يلعبه البوليس أو الادعاء في تقديم أدلة الاثبات والسلطات المعترف بها للقضاء الجنائي في اصدار أوامره بإجراء تحقيق، والثقة الممنوحة للإقناع الشخصي للقضاة عند تقدير الأدلة تدل كلها على أهمية هذا الحق الأساسي في الاثبات وتجعله لا غنى عنه كنظام خاص يحاط بضمانات وتكفل له فاعلية أكبر من ذلك التي له في الاجراءات المدنية حيث يتعلق بمجرد مصالح خاصة ومحددة.
ويلاحظ أن كلا من الطرفين في الدعوى الجنائية له الحق في التدليل والاثبات وليس للقاضي الجنائي أن يرفض طلبهما في التدليل إلا في الأحوال التي يكون فيها هذا التدليل غير لازم أو غير مقبول أو غير مقنع سواء كان هذا الطلب أو العرض من جانب المتهم أو من جانب الادعاء.
وفي أثناء إجراءات المحاكمة التي لها صفة المواجهة بين الخصوم يجب أن تعرض الأدلة للمناقشة من جانب الخصوم وفي مواجهتهم ويجب أن يبلغ كل خصم بما يبديه أو يقدمه الخصم الأخر من أدلة.
ويلاحظ أيضا أن المحكمة الجنائية على الرغم من دورها الايجابي الذي يمكن أن تؤديه في الاثبات إلا أنها لا يمكنها أن تبني حكمها على علمها الخاص الذي استقته من وقائع خارج مجريات الجلسات أو الأدلة المقدمة في الدعوى أو بناء على أمور لم ترد على لسان بعض الخصوم أو وردت على لسان بعضهم أو في مذكرة لبعضهم ولكنها لم تعلن لبقيتهم أو لم تطرح لمناقشتها معهم وذلك لاستحالة دحض مثل هذه الوقائع أو الأمور بالدليل المضاد من جانب الخصوم – غير أن هذا لا يمنع القاضي من أن يبني حكمه على المعلومات العامة والأمور التي حصلها بخبرته.
وقضت محكمة النقض بأنه:
أن القانون قد أمد القاضي الجنائي بسلطة واسعة وحرية كاملة في سبيل تقصي ثبوت الجرائم أو عدم ثبوتها و الوقوف على حقيقة علاقة المتهمين و مقدار اتصالهم بها ففتح له باب الاثبات على مصراعيه يختار من كل طرقه ما يراه موصلا إلى الكشف عن الحقيقة ويزن قوة الاثبات المستمدة من كل عنصر بمحض وجدانه فيأخذ بما تطمئن إليه عقيدته ويطرح ما لا ترتاح إليه غير ملزم بأن يسترشد في قضائه بقرائن معينة بل له مطلق الحرية في تقدير ما يعرض عليه منها ووزن قوته التدليلية في كل حالة حسبما يستفاد من وقائع كل دعوى وظروفها بغيته الحقيقة ينشدها أنى وجدها ومن أي سبيل يجده مؤديا – ولا رقيب عليه في ذلك غير ضميره وحده، وهذا هو الأصل الذي أقام عيه القانون الجنائي قواعد الاثبات لتكون موائمة لما تستلزمه طبيعة الأفعال الجنائية وتقتضيه مصلحة الجماعة من وجوب معاقبة كل جان وتبرئة كل برئ.
(نقض 12 / 6 / 1939 مجموعة القواعد القانونية ج 4 رقم 406 ص 575)
– قاعدة وجوب مناقشة الدليل:
تعتبر قاعدة وجوب مناقشة الدليل ضمانة هامة وأكيدة للعدالة حتى لا يحكم القاضي الجنائي من معلوماته الشخصية أو بناء على رأي الغير وفي هذا تنص المادة 302 من قانون الاجراءات الجنائية إنه – لا يجوز للقاضي أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه في الجلسة.
فعلى القاضي أن يطرح للمناقشة كل دليل قدم فيها حتى يكون الخصوم على بينة مما تقدم ضدهم من أدلة ومن ثم يبطل الحكم إذا كان مبناه دليلا لم يطرح للمناقشة أو لم تتح للخصوم فرصة ابداء الرأي فيه ومن باب أولى إذا لم يعلموا به أصلا.
– قرينة البراءة:
قرينة البراءة تعني افتراض براءة كل فرد مهما كان وزن الأدلة أو قوة الشكوك التي تحوم حوله أو تحيط به – فهو برئ هكذا ينبغي أن يعامل وهكذا ينبغي ـن يصنف طالما أن مسئوليته لم تثبت بمقتضى حكم صحيح نهائي صادر من القضاء المختص.
و هذه القرينة ضمانة هامة من ضمانات الحرية الشخصية للفرد ضد عسف السلطة من جهة و انتقام المجني عليه وهي ضمانة مطلقة يستفيد منها المتهم سواء أكان مبتدئا أم كان عائدا – و يستفيد منها المتهم مهما كانت جسامة الجريمة المسندة إليه وعلى امتداد المراحل التي تمر بها الدعوى الجنائية منذ حامت حوله الشبهات وإلى اللحظة التي يصدر فيها ضده حكم الإدانة الحائز لحجية الشي المقضي فيه.
فاذا ما صدر الحكم النهائي بالإدانة وحاز هذا الحكم حجية الشيء المقضي فيه انقلبت قرينة البراءة التي كان المتهم يعتصم بها في مختلف المراحل التي مرت بها الدعوى حتى صدور الحكم الحائز لحجية الشيء المقضي فيه إلى قرينة ضده.
وقرينة البراءة لا تعود بعد أن سقطت إذا ما طعن في الحكم بطريق إعادة النظر وبالتالي فإن المحكوم عليه الذي تقرر إعادة نظر دعواه يتحمل وحدة عبئ تقديم الدليل القاطع على براءته لان المحكوم عليه في أثناء إعادة نظر دعواه عند قبول الطعن بإعادة النظر لا تفترض براءته – بل تفترض على العكس مسئوليته.
وافتراض براءة المتهم إلى أن يصدر حكم نهائي بإدانته هي قرينة قانونية بسيطة أي تقبل اثبات العكس.
وافتراض براءة المتهم تعززه الكثير من الاعتبارات العملية – فحماية الحرية الشخصية للفرد وحماية أمنه الشخصي تفرض أن يكون تعامل السلطة معه قائما على أساس براءته – لأن التعامل على أساس أخر سوف يكون عدوانا على حريات الفرد الشخصية ومقدساته، وافتراض براءة المتهم هو الضمانة الأولى التي تقى الفرد من مخاطر سوء الاتهام.
– مشروعية الدليل:
يكون الدليل باطلا إذا استحصل عليه بالمخالفة للقانون – وإذا كان الدليل الباطل هو الدليل الوحيد فلا يصح الاستناد إليه في إدانة المتهم – وإلا كان مشوبا بعيب التسبيب = فإذا شاب التفتيش عيب يبطله فإنه يتناول جميع الأثار المترتبة عليه مباشرة.