مبدأ الاقتناع القضائي ونشأته
بقلم:محمد مبارك حافظ المحامي
بداية اقول أن مقتضي، هذا المبدأ الذي يحكم سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة أن للقاضي الحرية في تقدير قيمة كل دليل طبقا لقناعته القضائية، وله من خلال هذا التقدير أن يستقي قناعته من أي دليل يطمئن إليه حيث لا يوجد ما يلزمه بحجته المسبقة، كما له أن يطرح الادلة التي لا يطمئن اليها وله في النهاية سلطة التنسيق بين الأدلة المعروضة عليه لاستخلاص نتيجة منطقية من خلال التوصل للحكم
وقد عبرت محكمة النقض المصرية عن هذا المبدأ في قضاء لها بقولها ( العبرة في المحاكمات الجنائية هو باقتناع القاضي بناء علي الادلة المطروحة عليه لا يصح مطالبة قاضي الموضوع بالأخذ بدليل معين فقد جعل القانون سلطة ان يأخذ من أيه بينة او قرينة يرتاح اليها كدليل وله ان يطرح اي دليل لا يرتاح اليه )، وأن الاخذ بمبدأ حرية القاضي في تكوين قناعته له ما يبرره اذ ان الاثبات في المواد الجنائية يتسم بأنه لا يتعلق بأثبات تصرفات قانونية يحتاط أطرافها بالأدلة التي تم تهيئتها مسبقا , كما ان الاثبات الجنائي لا يقتصر علي الوقائع المادية وانما يشمل اثبات الوقائع المعنوية ( النفسية ) أيضا فالجريمة ليست كيانا ماديا خالصا قوامه الفعل وأثاره وانما هي كذلك كيان نفسي يقوم علي الارادة والإدراك وهي امور كامنة في ذات المتهم مما يستلزم ان تعطي للقاضي الجنائي سلطة او حرية واسعة في تقدير الادلة يتحرك في نطاقها بحرية، فعملية تقدير الأدلة لا يمكن صياغتها بقواعد قانونية ثابتة، وفرض قوتها التشريعية علي قناعة القاضي وإنما لابد ان يترك له تقديرها وفقا لقناعته
وبالحديث حول نشأت هذا المبدأ يرجع نشأته إلى بعد سقوط الامبراطورية الرومانية ونجاح البربر في الاستيلاء علي الحكم بدأ ينتعش نظام الأدلة القانونية الذي كان بموجبه يقوم المشرع نفسه بتنظيم القناعة واليقين القضائي طبقا لقواعد ينص عليها بهذا الشأن، وذلك بتحديده الشروط التي يستلزم توافرها في الدليل القابل لأثبات الإدانة، ويترتب علي هذا النظام ان القاضي لا يمكنه أن يصل إلى قناعته بإثبات الواقعة إلا إذا توافرت الشروط اللازمة له، فالمشرع في نظام الأدلة القانونية يحدد حجية الأدلة مسبقا ويضع ما يسمي ( بتسعيرة الأدلة ) حيث يحدد القيمة المقنعة لها.
وقد تضاءلت سلطة القاضي في تقدير الأدلة ازاء نمو نظام الادلة القانونية الذي بلغ ذروته في القرنين السادس والسابع عشر في فرنسا ويمثل القانون الجنائي الفرنسي القديم لعام (1670 م) والذي اصدره الملك لويس الرابع عشر نموذج لنظام الادلة القانونية حيث صنفت الأدلة فيه طبقا لقوتها المقنعة الي اربعة أصناف هي الادلة الكاملة والادلة الناقصة ( نصف الدليل ) والادلة الخفية واخيرا الادلة الضعيفة.
ومنذ منتصف القرن الثامن عشر تعرض نظام الادلة القانونية والذي يحد من سلطة القاضي لانتقادات كثيرة من قبل الفلاسفة وفقهاء القانون واخذ تيار هذه الانتقادات يتصاعد بحيث اوجد روحا تتجه نحو اصلاح النظام الجنائي عموما وكان العلامة ( بيكاريا ) اول داع للحركة في هذا المجال ونادي بأن اليقين المطلوب في الإثبات الجنائي هو ( اليقين الذي يرشد أي انسان الي الاعمال الهامة في الحياة وهذا اليقين لا يمكن حصره في القواعد الخاصة بالأدلة القانونية .
ثم جاء ( فلانجيزي )، مطالبا بالقاعدة القانونية الشاملة والاساسية للأثبات في المواد الجنائية والتي توجب ( تأسيس كل ادانة وبصفة مطلقة علي اليقين المعنوي وهذا اليقين لا يكمن الا في ضمير القاضي ) . وهذه الروح الجديدة احدثت تقدما سريعا وخصوصا في فرنسا وهكذا قام ( فولتير ) ومن بعده بعض الفلاسفة بمهاجمة الادلة القانونية والاشادة بمزايا نظام الادلة المعنوية الذي يقوم علي القناعة القضائية والذي بمقتضاه يباشر القاضي دورا ايجابيا في كشف الحقيقة ويبدو هذا الدور من جانبين هما حرية القاضي في ان يستخلص قناعته من اي دليل يطمئن إليه وحريته في تقدير هذه الادلة المطروحة عليه، ولهذه يطلق البعض علي هذا النظام بنظام حرية الادلة او نظام الادلة الاقناعية.
وبموجب هذا النظام تكون جميع أدلة الإثبات امام القاضي علي حد سواء ويتمتع بحرية في تقدير قيمة كل منها فليس هناك دليل له قوة ذاتية قانونية يلتزم بها , ونتيجة لذلك فأنه يحصر علي المشرع اضفاء قوة معينة لأي دليل من شأنه ان يقيد سلطة القاضي في تكوين قناعته، فالمشرع في هذا النظام لا يتدخل لتحديد الاسباب الخاصة في قناعة القاضي ويضمن هذا النظام للقاضي الجنائي استقلالا كاملا لتكوين قناعته القضائية بشأن قيمة الأدلة المعروضة عليه هذه القناعة التي لا يمكن ان تقوم بدورها في هذا المجال ما لم تتمتع بالحرية الكاملة.
ويترتب علي الأخذ بمبدأ حرية القاضي في الاقتناع نتيجتان مهمتان وهما حرية القاضي الجنائي في الاخذ بالادلة والثانية هي حريته في طرح مالا يطمئن اليه من الأدلة.