مبدأي العقد شريعة المتعاقدين والتوازن العقدي
قراءة في حكم المحكمة الدستورية العليا رقم 24 لسنة 20 ق الصادر بجلسة 9/11/2024بشأن قانون الإيجار القديم
بقلم / مايكل بساده أديب – باحث الدكتوراه بقسم القانون المدني – المحامي بالنقض و الإدارية العليا
مقدمة:
إن العلاقة بين مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” ومبدأ “التوازن العقدي” ليست علاقة تناقض، بل هي علاقة تكامل. فبينما يمثل الأول القاعدة التي تضمن استقرار المعاملات، يمثل الثاني الاستثناء الضروري الذي يضمن تحقيق العدالة في هذه المعاملات. وفي سياق القوانين الاستثنائية، مثل قوانين الإيجار القديم، ظهر هذا الصراع بوضوح. فقد تدخل المشرع لتجميد العلاقة الإيجارية، مما أدى إلى إخلال جسيم بالتوازن بين حقوق الملاك والمستأجرين. وفي هذا الإطار، يأتي حكم المحكمة الدستورية العليا رقم 24 لسنة 20 ق ليؤكد على أن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تكون ذريعة لإهدار حق الملكية، وأن القانون يجب أن يعيد التوازن المفقود، ليُبرهن أن القوانين الاستثنائية يجب أن تكون مؤقتة، وأنها لا تُلغي جوهر العقد أو وظيفته.
أجزاء من الحكم: –
ورد في أجزاء متفرقه من الحكم ما يلى :-” وحيث إن المدعي ينعى على النصين المطعون فيهما أن المشرع وإن منح المالك ابتداءً حق تقدير أجرة الأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكني الخاضعة لأحكامه، فإنه غل يده عن إعادة النظر فيها، جاعلا منها أجرة مجمدة ترتبط بالعين المؤجرة متى صارت نهائية، لا يجري عليها زيادة رغم استمرار العقد لمدة غير محددة ، مانحًا بذلك المستأجر مزية استثنائية لا تقتضيها طبيعة عقد الإيجار، بما يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية التي أعات حرية التعاقد، ويخل بمبدأ التضامن الاجتماعي، ويهدر الحق في الملكية الخاصة، مخالفا بذلك المواد (۲) و ۷ و ٣٢ و ٣٤) من دستور سنة ١٩٧١.
وحيث إن العدالة الاجتماعية وإن كانت من القيم التي تبناها الدستور، إلا أن مفهومها لا يناقض بالضرورة حق الملكية، ولا يجوز أن يكون عاصفا بفحواه، وعلى الأخص في نطاق العلائق الإيجارية التي تستمد مشروعيتها الدستورية من التوازن في الحقوق التي كفلها المشرع لأطرافها؛ ذلك أن الملكية بما يتفرع عنها من الحقوق – ينبغي أن تخلص لأصحابها، فلا ينقض المشرع على أحد عناصرها، ليقيم بنيانها على غير القواعد التي تتهيأ بها لوظيفتها الاجتماعية أسبابها. ولئن جاز القول بأن لكل حق وظيفة يعمل في إطارها ليتحدد مداه على ضوئها، فإن لكل حق كذلك – دائرة لا يجوز اغتيالها حتى يظل الانتفاع به ممكنا. وكلما فرض المشرع على الحق قيودا جائرة تنال من جدواه، فلا يكون بها إلا هشيما، فإن التذرع بأن لهذه القيود دوافعها من وظيفته الاجتماعية يكون لغوا.
وحيث إن السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق لازمها أن يفاضل بين بدائل متعددة مرجحًا من بينها ما يراه أكفل بتحقيق المصالح المشروعة التي قصد إلى حمايتها، إلا أن الحدود التي يبلغها هذا التنظيم لا يجوز بحال أن ينفلت مداها إلى ما يُعد سلبًا للملكية من أصحابها، سواء من خلال العدوان عليها بما يفقدها قيمتها، أو اقتلاع المزايا التي تنتجها، أو تهميشها أو تعطيل بعض جوانبها.
وحيث إنه ولئن صح القول بأن مواجهة أزمة الإسكان والحد من غلوائها اقتضى أن تكون التشريعات الاستثنائية الصادرة دفعا لها مترامية في زمن تطبيقها، فإنه يتعين النظر إليها دوما بأنها تشريعات طابعها التأقيت مهما استطال أمدها، وأنها لا تمثل حلا دائمًا ونهائيا للمشكلات المترتبة على هذه الأزمة، بل يتعين دوما مراجعتها من اجل تحقيق التكافؤ بين مصالح أطراف العلاقة الإيجارية، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها إلا بقدر الظروف التي أملت وجودها. ”
القانون رقم 164 لسنة 2025 بشأن تنظيم الاحكام المتعلقة بقوانين إيجار الأماكن وإعادة تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر
ثم في 4 أغسطس 2025 صدر القانون رقم 164 لسنة 2025 بشأن تنظيم الاحكام المتعلقة بقوانين إيجار الأماكن وإعادة تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر وظن البعض أن القانون الأخير ليس دستوري لآنه ينتهك مبدأ ” العقد شريعة المتعاقدين ” وأرى ان هذا الرأي جانبه الصواب وتعليقاً على ذلك الراي نقسم المقالة الى النقاط الأتية: –
اولاً: – قراءة في حكم المحكمة الدستورية العليا رقم 24 لسنة 20 ق الصادر بجلسة 9/11/2024بشأن قانون الإيجار القديم
ثانياً: – نبده بسيطة عن مبدأ العقد شريعة المتعاقدين
ثالثاً: – مبدأ العقد شريعة المتعاقدين ليس مبدأ دستوري
رابعاً: – نبده بسيطة عن مبدأ التوازن العقدي
خامسا: – مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” و”مبدأ التوازن العقدي
سادساً: – الرابط بين حكم المحكمة الدستورية ومبدأ التوازن العقدي
سابعاَ: – الإخلال بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين في قوانين الإيجارات الاستثنائية
اولاً: – قراءة في حكم المحكمة الدستورية العليا رقم 24 لسنة 20 ق الصادر بجلسة 9/11/2024 بشأن قانون الإيجار القديم
- تُحلل المحكمة حرفيًا النصوص القانونية التي منحت المستأجر مزايا استثنائية (كالأجرة المجمدة)، والغرض من هذه التشريعات الاستثنائية كان مواجهة أزمة الإسكان، لا “سلب الملكية من أصحابها”.
- تُؤكد المحكمة على أن التشريعات الاستثنائية بطبيعتها يجب أن تكون مؤقتة، وأنها لا تُشكل حلاً دائمًا. هذا يعني أن هذه التشريعات هي استثناء من الأصل وهو “العقد شريعة المتعاقدين”، وأن هذا الاستثناء لا يمكن أن يتحول إلى قاعدة دائمة تُهدر حق الملكية.
- تُشير المحكمة إلى “أزمة الإسكان” و “غلوائها”، وتُؤكد على أن القانون يجب أن يتكيف مع الواقع الاجتماعي. ولكنها في الوقت نفسه تُقرّ بأن هذا التكيف لا يجب أن يصل إلى حد الإضرار بجوهر الحقوق.
- العلة التشريعية وراء قوانين الإيجار الاستثنائية كانت حماية المستأجر، ولكن الغاية من القانون الأسمى (الدستور) هي تحقيق التوازن بين الحقوق.
- تُؤكد المحكمة على أن مفهوم “العدالة الاجتماعية” لا يُناقض “حق الملكية”، بل يجب أن يكون متكاملاً معه.
- ترفض المحكمة هنا ظلم فئة (الملاك) لصالح فئة أخرى (المستأجرين). وهي تُعيد التأكيد على أن الحقوق تُحمى من أي عدوان، حتى لو كان الهدف منه تحقيق مصلحة اجتماعية.
- يُعد الحكم محاولة لإعادة التوازن في ديناميكيات القوة بين الملاك والمستأجرين، حيث إن قوانين الإيجار القديم كانت تُعطي سلطة أكبر للمستأجرين.
ثانياً: – نبده بسيطة عن مبدأ العقد شريعة المتعاقدين
- يُعد مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” (Pacta Sunt Servanda) من أقدم المبادئ التي عرفتها النظم القانونية على مر العصور، وهو يُمثل حجر الزاوية في بناء العلاقات التعاقدية. هذا المبدأ، الذي يُترجم حرفيًا إلى “العهود يجب أن تُنفذ”، لا يقتصر تطبيقه على نطاق القانون الداخلي للدول فحسب، بل يمتد ليشكل قاعدة أساسية في القانون الدولي للعقود، سواء كانت عقودًا بين دول أو بين أطراف من جنسيات مختلفة. إن هذا المبدأ يُضفي على العقود الدولية قوةً إلزامية، ويجعل من إرادة الأطراف المصدر الأول والأعلى للقانون الواجب التطبيق على العقد.
- العقد هو أهم تصرف إرادي يقوم به الإنسان في حياته. وعن طريق العقود تتم المعاملات بين الأفراد ويتحقق النشاط في المجتمع. ولا شك أن كل فرد يسعى إلى تحقيق مصلحته وإلى تحقيق العدل بالنسبة لنفسه. ولذلك إذا أبرم إنسان عاقل عقداً فالمفروض أن يكون هذا العقد معبراً عن العدل بالنسبة له. ونظراً لأن العقود تبرم بين طرفين فيفترض أنها تحقق العدل لكل من هذين الطرفين. ولذلك يمكن القول إن العقد تعبير عن العدل وأن من قال عقداً فقد قال عدلاً. ولذلك فإن المقصود بالمساواة في العقد، تلك المساواة التي يرضاها كل متعاقد لنفسه، لأن أحداً لا يرضى لنفسه الظلم بإرادته 0
(جوهر القانون – دراسة متعمقة في فلسفة القانون لطلبة معهد البحوث والدراسات العربية بجامعة الدول العربية- ا.د/ سمير تناغو -استاذ القانون المدني كلية الحقوق – جامعة الاسكندرية طــــ 1 – 2014- الناشر مكتبة الوفاء القانونية – صـــ 42 وما بعدها)
- جوهر المبدأ في العقود: –
يُعبر مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” عن فكرة أن الأطراف المتعاقدة، بحريتهم الكاملة وإرادتهم الواعية، قد أنشأت التزامات قانونية تجاه بعضها البعض، وهذه الالتزامات تُصبح بمثابة قانون خاص بها. هذا المبدأ يُعزز من استقرار المعاملات التجارية الدولية ويُقدم ضمانة للأطراف بأن ما اتفقوا عليه سيُنفذ، بغض النظر عن القوانين المحلية للدول التي ينتمون إليها.
- المصادر القانونية للمبدأ: – يستمد هذا المبدأ شرعيته في القانون الدولي من عدة مصادر، أبرزها:
- القانون الدولي العرفي: فكرة أن العهود يجب أن تُحترم هي عرف دولي قديم، استقرت عليه العلاقات بين الدول لقرون.
- المبادئ العامة للقانون: يُعد هذا المبدأ من المبادئ العامة التي تُطبق في معظم النظم القانونية الرئيسية في العالم.
* الآثار القانونية للمبدأ في العقود: يُولد هذا المبدأ آثارًا قانونية مهمة في العقود، من أبرزها:
- القوة الإلزامية للعقد: يُصبح العقد ملزمًا للأطراف المتعاقدة، ولا يجوز لأي طرف أن يمتنع عن تنفيذه أو يُعدله من طرف واحد.
- تفسير العقد: يُلزم هذا المبدأ المحكمين أو القضاة عند تفسير بنود العقد بالبحث عن الإرادة المشتركة للأطراف، وليس مجرد التفسير الحرفي للنص.
- تطبيق العقد: يُعطي الأولوية لما اتفق عليه الأطراف على حساب أي قانون وطني يتعارض معه.
* الاستثناءات والحدود:- على الرغم من رسوخ هذا المبدأ، إلا أنه لا يُطبق بشكل مطلق. هناك بعض الاستثناءات والحدود التي تُقلل من إطلاقيته، ومنها:
- القوة القاهرة (Force Majeure): إذا حدث ظرف خارجي لا يمكن توقعه أو دفعه، ويجعل من تنفيذ العقد مستحيلًا، فيجوز إيقاف تنفيذ العقد أو إنهائه.
- ظروف الطوارئ (Hardship): إذا تغيرت الظروف بشكل جوهري بعد إبرام العقد، وأصبح تنفيذه مرهقًا جدًا لأحد الأطراف، يجوز لهذا الطرف أن يطلب إعادة التفاوض على شروط العقد.
خاتمة
يُشكل مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” أساسًا لا غنى عنه في القانون للعقود. فهو يُعزز من الثقة بين الأطراف، ويضمن استقرار المعاملات، ويُقدم حماية قانونية للعلاقات التجارية والاستثمارية. ورغم وجود بعض الاستثناءات التي تهدف إلى تحقيق العدالة في حالات معينة.
ثالثاً: – مبدأ العقد شريعة المتعاقدين ليس مبدأ دستوري.
- لم يكن هذا المبدأ دستورياً على الاطلاق في ظل دستور 1971 والذي نص في المادة الرابعة منه – قبل تعديلها – على الاتي:” الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي القائم على الكفاية والعدل بما يحول دون الاستغلال ويهدف إلى تذويب الفوارق بين الطبقات. ” …… فإذا كانت مصر في وقتها من الدول الاشتراكية فكيف يكون مبدا العقد شريعة المتعاقدين هو مبدأ دستوري؟؟؟؟
- على أن الملكية -وبالرغم من حيوية وظائفها – إلا أن الملامح الاشتراكية لهذا الدستور التي أفرزتها مفاهيم الميثاق، والمؤتمر الوطني للقوى الشعبية، كان لها ظلالها القائمة على الحياة النيابية والاقتصادية في مصر. ومن ثم لم ينص الدستور على حرية التعاقد التي تناقض -في تقديره -ضرورة السيطرة على رأس المال الخاص في مصادر تكوينه ونواتجه
(الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ملامحها الرئيسية ” للمستشار الدكتور/ عوض المر – الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا
– صــــــ 345 – فــــــــ 228)
- قوانين الإيجارات القديمة هي تشريعات استثنائية أختصها القانون بأحكام استثنائية لا يمكن الاتفاق على ما يُخالف هذه الاحكام …. فكيف تخضع القوانين الاستثنائية الى مبدأ العقد شريعة المتعاقدين…… كيف يخضع الاستثناء الى القاعدة العامة؟؟؟؟
- قامت المحكمة الدستورية بتفسير العيوب الواردة في قوانين الإيجارات الاستثنائية من منظور دستوري وسبب عدم الدستورية ولم تتطرق المحكمة من قريب أو من بعيد في احكامها التي صدرت بعدم دستوريه أي نص من نصوص قوانين الإيجارات الى أنه يوجد
- تم تعديل المادة الرابعة من دستور 1971 في 31 /3/ 2007 ونصت على أنه ” يقوم الاقتصاد في جمهورية مصر العربية على تنمية النشاط الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، وكفالة الأشكال المختلفة للملكية والحفاظ على حقوق العمال.”
- ثم جاءت المادة 27/1 من دستور 2014 لتنص على أنه ” يهدف النظام الاقتصادي إلى تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر…..”
رابعاً: – نبده بسيطة عن مبدأ التوازن العقدي: –
لم يعد العقد في النظم القانونية المعاصرة مجرد تعبير عن سلطان الإرادة المطلق، بل أصبح محكومًا بمبدأ أعم و أشمل هو التوازن العقدي. هذا المبدأ يقوم على فكرة أن العقد، لكي يكون عادلاً وقابلاً للتنفيذ، يجب أن يحقق توازنًا بين الالتزامات والحقوق المتبادلة للأطراف. إن هذا التوازن لا يعني بالضرورة المساواة الكاملة في القيمة، بل يعني غياب أي استغلال أو إجحاف جسيم من طرف على حساب الآخر. هذا المفهوم، الذي كان يُنظر إليه تاريخيًا كاستثناء، أصبح اليوم قاعدةً أساسية تُحكم صياغة العقود وتفسيرها.
أولاً: التوازن العقدي في العقود
في القانون، سواء كان مدنيًا أو تجاريًا، يُعتبر التوازن العقدي مبدأً أساسيًا يُعالج الاختلالات التي قد تنشأ أثناء تنفيذ العقد.
- في العقود:
- نظرية الظروف الطارئة (Hardship): في العقود الملزمة للجانبين، إذا حدثت ظروف استثنائية عامة غير متوقعة، وأصبح تنفيذ الالتزام مرهقًا لأحد الأطراف إلى الحد الذي يهدده بخسارة فادحة، فإن القاضي يملك سلطة تعديل العقد لإعادة التوازن بين الالتزامات.
- يُعد مبدأ التوازن العقدي أكثر ديناميكية في العقود التجارية، التي تقوم على السرعة والائتمان. ورغم أن القواعد العامة قد لا تُطبق بنفس الصرامة، إلا أن القضاء التجاري يتجه نحو حماية الطرف الضعيف في بعض الحالات، خاصة في عقود الإذعان أو العقود التي تتضمن شروطًا تعسفية.
- الشروط التعسفية (Unconscionable Clauses): تُعتبر الشروط التي تُضعف بشكل غير مبرر حقوق أحد الأطراف أو تُعفيه من المسؤولية بشكل كامل، شروطًا تعسفية. ويُعطي القانون للقاضي سلطة إبطال هذه الشروط أو تعديلها لإعادة التوازن إلى العقد.
ثانياً: مبدأ التوازن في العقود الدولية: تحديات وتطبيقات
يُشكل تطبيق مبدأ التوازن العقدي في العقود الدولية تحديًا أكبر بسبب اختلاف القوانين والأنظمة. ومع ذلك، فإن هذا المبدأ يجد تطبيقاته في عدة مجالات:
- في عقود التجارة الدولية:
- نظرية إعادة التوازن (Rebus Sic Stantibus): تُعرف هذه النظرية في القانون الدولي بالتعامل مع التغير الجوهري في الظروف. فإذا تغيرت الظروف بشكل غير متوقع بعد إبرام العقد، وأصبح تنفيذه مرهقًا بشكل استثنائي لأحد الأطراف، يجوز لهذا الطرف أن يطلب إعادة التفاوض على العقد. هذه القاعدة تُعزز من مبدأ التوازن العقدي في المعاملات التجارية الدولية.
- مبادئ اليونيدروا (UNIDROIT Principles): تُعد هذه المبادئ، التي تُطبق كقواعد اختيارية في العقود الدولية، تأكيدًا على أهمية التوازن العقدي. فمبادئ اليونيدروا تُعطي الأطراف الحق في تعديل العقد أو إنهائه إذا أصبحت ظروف تنفيذه مرهقة بشكل كبير بسبب تغيير جوهري في الظروف.
- في العقود بين الدول والشركات الأجنبية:
- في عقود الامتياز أو عقود الاستثمار بين دولة وشركة أجنبية، يُعتبر مبدأ التوازن العقدي ضروريًا. فإذا تغيرت الظروف الاقتصادية أو السياسية في الدولة المضيفة، وأصبح العقد مرهقًا لأحد الطرفين، يمكن للمحكمة أو هيئة التحكيم أن تُعدل شروط العقد لإعادة التوازن إليه.
ثالثاً: العلاقة بين مبدأ التوازن ومبادئ أخرى
يُعد مبدأ التوازن العقدي مكملاً لمبادئ أخرى في القانون، مثل مبدأ حسن النية (Good Faith): يتطلب مبدأ حسن النية من الأطراف التعاقد بحسن نية، وعدم استغلال حاجة الطرف الآخر.
خاتمة
يُشكل مبدأ التوازن العقدي تحولًا نوعيًا في فهمنا للعلاقات التعاقدية. فقد انتقلنا من فكرة الإرادة المطلقة إلى فكرة الإرادة المسؤولة، التي يجب أن تُحقق التوازن بين حقوق الأطراف. هذا المبدأ يُعدّ ضروريًا لضمان استقرار المعاملات التجارية، سواء كانت محلية أو دولية، ويُعطي للقضاء والتحكيم سلطة التدخل لتصحيح الاختلالات التي قد تنشأ. إن هذا المبدأ ليس مجرد نظرية، بل هو واقع قانوني يُطبق في العقود المدنية والتجارية، ويُشكل حجر الزاوية في بناء نظام قانوني عادل.
خامسا: – مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” و”مبدأ التوازن العقدي”
يُعتبر مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” و”مبدأ التوازن العقدي” من أهم المبادئ التي تُشكل قلب القانون المدني والتجاري.
- ينص مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” صراحة على أن “العقد” يُعد “شريعة” للأطراف، أي أنه قانونهم الخاص الذي يجب أن يُطبق بحذافيره. هذا التفسير يعطي الأولوية المطلقة لإرادة الأطراف كما وردت في العقد، دون أي تدخل خارجي.
- الغرض من مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” هو تحقيق الاستقرار والأمان في المعاملات، وتشجيع الأفراد على إبرام العقود. أما الغرض من “مبدأ التوازن العقدي”، فهو تحقيق العدالة والإنصاف في العلاقات التعاقدية، ومنع استغلال طرف للآخر. هذان المبدآن لا يتناقضان، بل يكمل أحدهما الآخر.
- تاريخيًا، ساد مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” بشكل مطلق في القرنين التاسع عشر والعشرين، باعتباره تعبيرًا عن الليبرالية الاقتصادية. ولكن، مع ظهور أزمات اقتصادية واجتماعية، برزت الحاجة إلى مبدأ “التوازن العقدي” لحماية الطرف الضعيف من الاستغلال، وهو ما يُعرف “بنظرية الظروف الطارئة” أو “نظرية الاستغلال”.
- يُعد مبدأ “التوازن العقدي” استثناءً على مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”. فالأصل أن العقد مُلزم، ولكن إذا اختل التوازن بشكل جوهري، فإن القانون يتدخل لإعادة هذا التوازن.
- في النظم القانونية الحديثة، يُنظر إلى العقد ليس فقط كعلاقة بين فردين، بل كأداة اقتصادية واجتماعية يجب أن تُحقق العدالة وتخدم المصلحة العامة. وهذا هو السياق الذي سمح بتطور “مبدأ التوازن العقدي”.
- القصد التشريعي وراء مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” هو احترام إرادة الأطراف والحرية الشخصية. أما العلة التشريعية فتكمن في أن العقد الذي يتم بحرية وإرادة كاملة يُفترض أنه عادل. أما مبدأ “التوازن العقدي” فقصد المشرع منه هو تحقيق العدالة بين الأطراف، وعلته هي أن العقد قد لا يكون عادلاً دائمًا بسبب ظروف غير متوقعة أو بسبب استغلال أحد الأطراف.
- يفترض مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” أن العقد قد أُبرم وفقًا لإجراءات عادلة. أما مبدأ “التوازن العقدي” فيُعنى بتوزيع الحقوق والالتزامات بشكل عادل بين الأطراف.
- يُعبر مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” عن احترام الإرادة الحرة للأفراد، باعتبارها قيمة أخلاقية مطلقة. أما مبدأ “التوازن العقدي” يُعنى بتحقيق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الأفراد، بمنع الاستغلال والإجحاف.
- يبدو المبدآن متناقضين في الظاهر، ولكن من منظور منطقي، هما لا يتناقضان. فمبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” هو القاعدة، ومبدأ “التوازن العقدي” هو الاستثناء.
- يمكن فهم المبدأين من خلال وضعهما في سياقهما القانوني؛ فالقانون المدني ينص على أن “العقد شريعة المتعاقدين” ولكن في نفس الوقت ينص على مبادئ الاستغلال والظروف الطارئة، وهذا يُظهر أن المشرع قد وضع نظامًا متكاملاً لتحقيق العدالة.
- يمكننا أن نستنتج منطقيًا أنه إذا كانت هناك قاعدة “العقد شريعة المتعاقدين”، فإن هناك حاجة لوجود استثناء لها لمنع الظلم، وهذا ما يُبرر وجود “مبدأ التوازن العقدي”.
- يُشكل “مبدأ التوازن العقدي” تطبيقًا عمليًا لمبادئ العدالة والإنصاف، حيث يُعطي للقاضي سلطة التدخل لتصحيح الاختلالات التي قد تنشأ في العقد.
- تاريخيًا، كانت المجتمعات تُعلي من شأن الفرد وإرادته الحرة، وهو ما أدى إلى سيادة مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”. ولكن، مع ظهور الشركات الكبرى وعقود الإذعان، برزت الحاجة إلى مبدأ “التوازن العقدي” لحماية المستهلكين والموظفين.
- يُعد “مبدأ التوازن العقدي” أداة لتصحيح عدم التوازن في القوة بين الأطراف. فالعقد ليس دائمًا تعبيرًا عن إرادتين متكافئتين، بل قد يكون تعبيرًا عن إرادة قوية تُفرض على إرادة ضعيفة.
- إن تطبيق مبدأ “التوازن العقدي” يزيد من القبول الاجتماعي للقانون وشرعيته، لأنه يُظهر أن القانون ليس مجرد أداة لفرض السلطة، بل هو أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
سادساً: – الرابط بين حكم المحكمة الدستورية ومبدأ التوازن العقدي
يُشكل هذا الحكم تطبيقًا عمليًا لمبدأ التوازن العقدي الذي ناقشناه سابقًا. فالمحكمة الدستورية تُؤكد على أن العقد، الذي هو شريعة المتعاقدين، يجب أن يكون متوازنًا. وعندما يأتي قانون ويُخل بهذا التوازن بشكل جذري، فإن هذا القانون يصبح غير دستوري.
- مبدأ التوازن كقيمة دستورية: الحكم يُعلي من شأن مبدأ التوازن العقدي، ويجعله قيمة دستورية يجب على المشرع أن يُراعيها عند سن القوانين.
- نقد الإطلاقة: بينما كان مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” يُنظر إليه في السابق على أنه مطلق، فإن هذا الحكم يُوضح أن إطلاقيه العقد ليست مطلقة، وأنها مُقيدة بضرورة تحقيق التوازن.
- دور القانون في تصحيح الاختلال: الحكم يُبرز أن دور القانون ليس فقط حماية العقود، بل أيضًا تصحيح الاختلالات التي قد تنشأ فيها، سواء كانت بسبب استغلال الأطراف، أو بسبب قوانين استثنائية أصبحت لا تُناسب الواقع.
سابعاَ: – الإخلال بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين في قوانين الإيجارات الاستثنائية
1- يُعد مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” حجر الزاوية في نظرية الالتزام، فهو يُعبر عن سلطان الإرادة، ويُعطي للعقد قوته الإلزامية التي تُحتم على الأطراف تنفيذه كما هو. ولكن، في سياق قوانين الإيجارات الاستثنائية، التي صدرت لمعالجة أزمات اجتماعية كأزمة السكن، تم المساس بهذا المبدأ بشكل جوهري. فبدلاً من أن يكون العقد هو القانون الذي يحكم العلاقة بين المالك والمستأجر، أصبح القانون الاستثنائي هو الذي يفرض أحكامًا مُجحفة، ويُقلص من حرية الأطراف في تحديد مدة العقد وأجرته وشروطه.
ولعل أبرز صور الإخلال بهذا المبدأ تتمثل في:
- تجميد الأجرة: حيث تفرض القوانين الاستثنائية أجرة ثابتة لا تتغير، بغض النظر عن القيمة السوقية للوحدة، مما يُجرد المالك من حقه في تحقيق عوائد عادلة من ملكيته.
- الامتداد القانوني للعقد: حيث تُجبر القوانين المالك على استمرار العلاقة الإيجارية بشكل غير محدد المدة، حتى بعد انتهاء المدة المتفق عليها في العقد، وهو ما يُعتبر انتهاكًا صريحًا لحرية التعاقد، ويُحول العقد من اتفاق مؤقت إلى التزام أبدي.
إن هذا الإخلال أدى إلى نتائج سلبية، حيث أضعف من ثقة الأطراف في حرية التعاقد، وجعل من العقد مجرد شكل صوري، لا يعكس الإرادة الحقيقية للمالك.
2- في الأصل، يُفترض أن العقد الذي يُبرم بإرادة حرة يُحقق توازنًا بين حقوق والتزامات الأطراف. ولكن، في العقود التي تُطبق عليها قوانين الإيجارات الاستثنائية، تم الإخلال بهذا التوازن بشكل فادح، حيث أدت هذه القوانين إلى سيادة مصالح طرف (المستأجر) على حساب طرف آخر (المالك)، وهو ما يُشكل انتهاكًا لمبدأ “التوازن العقدي”.
ويظهر الإخلال بهذا المبدأ في النقاط التالية:
- العدالة التوزيعية المُختلة: بدلاً من تحقيق عدالة تُوزع الحقوق والالتزامات بشكل عادل، أدت هذه القوانين إلى توزيع غير عادل، حيث حصل المستأجر على حق الانتفاع بالعقار بأجرة زهيدة لا تتناسب مع قيمته، في حين حُرم المالك من حقه في استغلال ملكيته بشكل عادل.
- إهدار الملكية: تُعد الملكية حقًا دستوريًا مكفولًا. ولكن، عندما يفرض القانون على المالك أجرة مجمدة ويُجبره على استمرار العقد بشكل أبدي، فإنه يُهدر جوهر الملكية ويُفرغها من قيمتها الاقتصادية.
إن هذا الإخلال لا يُعد مجرد مشكلة قانونية، بل هو مشكلة اقتصادية واجتماعية، حيث أدى إلى هروب رؤوس الأموال من قطاع الإيجارات، وإلى عدم وجود حافز لدى الملاك لصيانة وتطوير عقاراتهم.
ثامناَ: – حكم المحكمة الدستورية العليا: إعادة التوازن العقدي في قوانين الإيجار
إن حكم المحكمة الدستورية العليا، الذي أكد على أن قوانين الإيجارات الاستثنائية تُهدر الملكية وتُخل بالتوازن العقدي، يُعد خطوة مهمة نحو إعادة التوازن إلى العلاقة الإيجارية. فالقانون يجب أن يكون أداة لتحقيق العدالة بين الأطراف، لا وسيلة لاستغلال طرف على حساب الآخر. وعلى المشرع أن يُراجع هذه القوانين، ويُعيد للعقد سلطانه، ويُحقق التوازن الذي يُعد ضروريًا لاستقرار العلاقات الإيجارية.
لسنوات طويلة، ظل مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” يُفسر في ضوء قوانين الإيجارات الاستثنائية على أنه سلطة مطلقة للمشرع في تجميد العلاقة الإيجارية. كانت عقود الإيجار تتحول إلى علاقات أبدية، تُورث وتُمتد دون النظر إلى حقوق المالك أو التغيرات الاقتصادية والاجتماعية. هذا الوضع أدى إلى اختلال جسيم في التوازن العقدي، حيث أصبح المستأجر هو الطرف الأقوى، بينما تحول المالك إلى مجرد حارس على ملكية لا يستطيع الانتفاع بها.
لكن المحكمة الدستورية العليا، في حكمها الأخير، وضعت حدًا لهذا الاختلال، وأكدت أن التوازن العقدي هو جزء لا يتجزأ من مفهوم العدالة والإنصاف، الذي يكفله الدستور.
الأسس القانونية للحكم: الملكية والتضامن الاجتماعي
- حماية الملكية الخاصة: أكدت المحكمة إلى أن القوانين التي تُجمد الأجرة وتُبقي العقد لمدة غير محددة، تُعد بمثابة “سلب للملكية” أو “إهدار للمزايا التي تنتجها”، وهو ما يتعارض مع جوهر هذا الحق.
- مبدأ التضامن الاجتماعي: أوضحت المحكمة أن التضامن الاجتماعي ليس ذريعة لإهدار حقوق فئة لصالح أخرى. ففي حين يهدف القانون إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أن مفهومها لا يجوز أن يكون “عاصفًا بفحواه” أو مُهدرًا للحقوق الأساسية.
- وظيفة القانون الاستثنائي: أكدت المحكمة أن التشريعات الاستثنائية التي تُصدر لمواجهة أزمات معينة (مثل أزمة الإسكان) يجب أن يكون طابعها التأقيت، وأنها لا تُشكل حلاً دائمًا. وهذا يعني أن هذه التشريعات لا يمكنها أن تُلغي جوهر العقد أو أن تُفقد الملكية وظيفتها.
وختاماً
يُشكل حكم المحكمة الدستورية العليا نقطة تحول جوهرية، حيث يعيد للقانون دوره كأداة لتحقيق العدالة لا لفرض المصالح. لقد أثبت الحكم أن مبدأ التوازن العقدي ليس مجرد نظرية، بل هو قيمة دستورية يجب على المشرع والقضاء الالتزام بها. إن إعادة الاعتبار لهذا المبدأ تضمن أن العقود ليست مجرد وثائق، بل هي علاقات عادلة تعكس التوازن بين الإرادات والالتزامات، مما يعزز من ثقة الأفراد في النظام القانوني، ويُمهد الطريق لقوانين أكثر إنصافًا وفعالية في المستقبل.