مبادرة «حياة كريمة» والصرف الصحي المظلوم
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
«حياة كريمة» هي مبادرة أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي في الثاني من يناير عام 2019م، وذلك بهدف تحسين مستوى الحياة للفئات المجتمعية الأكثر احتياجاً على مستوى الدولة، وبخاصة في القرى والمناطق الأكثر احتياجاً، والاسهام في الارتقاء بمستوى الخدمات اليومية المقدمة لهم. وتعد هذه المبادرة هي الأول من نوعها في تاريخ مصر، وتستهدف تحسين مستوى معيشة 60% تقريباً من المواطنين الذين يعيشون في الريف المصري. وتتضمن المبادرة العديد من الخدمات، وهي: بناء أسقف ورفع كفاءة منازل؛ مد وصلات مياه وصرف صحي؛ تجهيز الفتيات اليتيمات للزواج؛ توفير فرص عمل من خلال تدريب وتشغيل الراغبين في العمل من خلال مشروعات متناهية الصغر؛ تقديم سلات غذائية للأسر الفقيرة؛ توفير البطاطين والمفروشات لمواجهة برد الشتاء؛ إطلاق قوافل طبية للخدمات الصحية؛ تنمية الطفولة؛ مشروعات لجمع القمامة وإعادة تدويرها.
وطبقاً لنظرية تداعي المعاني، وعند سماع عبارة «حياة كريمة»، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الحديث عن «الكرامة الإنسانية» باعتبارها أساس وعماد كل حقوق الإنسان، على اختلاف تصنيفاتها ومجالاتها. ولذلك، فقد أحسن المشرع الدستوري المصري بالنص على «الكرامة» في صدر الباب الثالث من الدستور، المعنون «الحقوق والحريات والواجبات العامة». إذ تنص المادة (51) من الدستور على أن «الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها». وجدير بالذكر في هذا الصدد أن هذه المادة لا نظير لها في الدساتير المصرية السابقة على 2011م.
وإذا كانت الخدمات التي تقدمها المبادرة في شقها المتعلق بالقوافل الطبية وبناء أسقف ورفع كفاءة منازل، قد حظيت بالاهتمام الإعلامي والشعبي، فإن الشق المتعلق بالصرف الصحي لم يحظ بالقدر الكاف من التغطية الإعلامية، وذلك على الرغم من الأهمية البالغة له في تطوير وجه الحياة في الريف وتحسين مستوى جودة الحياة في المناطق الريفية. ويبدو أن ذلك هو قدر الصرف الصحي المحتوم أن يبقى دائماً في باطن الأرض غير ظاهر للعيان، ومن ثم لا يراه أحد ولا يفطن العديد من الأشخاص إلى أهميته. وللوقوف على حجم العمل المبذول في هذا الصدد، وفي نهاية العام 2021م، وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الإسكان، فإن نسبة تغطية مياه الشرب على مستوى الجمهورية بلغت حوالي 98.7%، بينما وصلت نسبة تغطية خدمات الصرف الصحي على مستوى الدولة إلى 66.7%، ومن المخطط الوصول إلى نسبة تغطية 100% لخدمات الصرف الصحي في ظل المبادرة الرئاسية حياة كريمة. وليس الأمر قاصراً على مد شبكات الصرف الصحي، وإنما يمتد الاهتمام إلى بناء محطات معالجة الصرف الصحي، واستخدام تكنولوجيا البيوبلوك لمعالجة مياه الصرف الصحي بالقرى المصرية. وتبلغ إجمالي الاستثمارات التي تم ضخها لمشروعات مياه الشرب والصرف الصحي 120 مليار جنيه.
هذا من حيث الكم. أما من حيث الكيف، يمكن القول إن الصرف الصحي هو حجر الزاوية في التنمية الشاملة، ولا يتصور الحديث عن التنمية الشاملة بدونه. ففي برنامجه التليفزيوني «مع هيكل»، وفي حلقة تحت عنوان «حسابات قرار»، وللتدليل على أن التاريخ «إنساني» بالدرجة الأولى، يقول الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل إن «بعض الناس يتصوروا أن التاريخ هو قصص الملوك وغزوات الملوك وفتوحات الملوك. الغريب جداً أن التاريخ إنساني بالدرجة الأولى. في جامعة أكسفورد، على سبيل المثال، من حوالي 7 أو 8 سنين، كان فيه مؤتمر أو اجتماع ضيق. في أكسفورد هم مهتمين بالتاريخ الإنساني، وبدأوا يبحثون عن أهم الأحداث التي أثرت على الإنسان في القرن التاسع عشر. هذا القرن الذي كان قرن فوران؛ هذا القرن الذي شهد البخار والكهرباء، شهد دارون وماركس وفرويد، وشهد التليفون والسيارات، تقريباً كل مخترعات العصر. ومع ذلك، انتهى الأساتذة إلى أن أهم ما حدث في القرن التاسع عشر، أهم تطور تاريخي في القرن التاسع عشر هو التوصل إلى نظام للصرف الصحي. لا نسأل أنفسنا نحن مرات: لماذا حدث أن عدد سكان الكرة الأرضية في القرن العشرين زاد عن أو وازي عدد كل البشر الذين عاشوا في العالم منذ بدء التاريخ في كل القرون. أي أن القرن العشرين عاش فيه من البشر بمقدار ما عاش على طول تاريخ البشرية. والسبب الواضح في التأثير هو – وهذه مسألة لابد أن تلفت نظرنا إلى أن التاريخ إنساني وليس تاريخ الملوك – أن التوصل للصرف الصحي هو العامل الفاصل الذي حسم مصير الإنسانية، وأنا أرى كميات كتب ظهرت بعدها وتقارير تتكلم عن تأثير الصرف الصحي. لا أحد يفتكر أن الملكة اليزابيث الأولى عندما أحبت أن تقدم نفسها لملك فرنسا للزواج ضمن المغريات ذكرت أنها تستحم مرة كل سنة. عندما أذهب إلى متحف الاسكوريال (Escorial)، أي المتحف الكبير في إسبانيا، والكائن بجوار مدريد، يلفت نظري دائماً أن هناك متحف خاص بفيليب الثاني، والذي يعتبر سيد البحر الأبيض ومشجع اكتشافات أمريكا، حيث يلفت نظرنا كلنا بما فينا المرشدين الذين يرشدون الزائرين إلى الكرسي الذي كان فيليب الثاني يذهب عليه إلى الحمام. ساعات عندما نرى أمامنا الصرف الصحي والمياه الجارية وكل هذه التسهيلات الموجودة في حماماتنا، ننسى كيف كانت البشرية – ملوكاً وأباطرة – يعيشون قبل أن تظهر قضية الصرف الصحي. هنا يبدو ليس فقط العامل الإنساني في التاريخ، ولكن يبدو أيضاً أن هذا العامل مؤثر وفاعل في الأحداث. عندما يقال إن نابليون قد خسر معركة ووترلو (Waterloo) لأنه كان عنده مغص في بطنه، ولم يكن موجوداً عندما جاءت قوات حليفه في الحرب، الجنرال كروب، لكي يوجه الجنود في المعركة، لأنه ببساطة كان بعيداً عن مقر قيادته لأسباب متعلقة باحتياجاته الإنسانية. كانوا يبعدون مسافات طويلة ليتصرفوا».
وهكذا، وإدراكاً لأهمية الصرف الصحي، اعتمدت منظمة الأمم المتحدة اليوم العالمي لدورات المياه أو اليوم العالمي للمرحاض (World Toilet Day)، والذي يتم الاحتفال به سنوياً في التاسع عشر من نوفمبر، وذلك بقصد التوعية وتقدير قيمة دورات المياه. وبحسب موقع الأمم المتحدة، تذكر المنظمة الدولية الأهم في عالم اليوم سبع حقائق مهمة، وهي: عندما لا يتوافر لدى بعض الأشخاص في المجتمع دورات مياه آمنة، فإن صحة الجميع معرضة للخطر. ويؤدي سوء مرافق الصرف الصحي إلى تلويث مصادر مياه الشرب والأنهار والشواطئ والمحاصيل الغذائية، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض الفتاكة بين السكان. أما الحقيقة الثانية، فهي أن ما لا يقل عن ملياري شخص على مستوى العالم يستخدمون مصادر مياه شرب ملوثة بالبراز. والحقيقة الثالثة، أن كل يوم يموت أكثر من سبعمائة طفل دون سن الخامسة، بسبب الإسهال المرتبط بالمياه غير الآمنة والصرف الصحي غير الآمن وسوء النظافة الصحية. والحقيقة الرابعة، هي أن كل دولار يستثمر في الصرف الصحي الأساسي يحقق عائداً يصل إلى 5 دولارات في التكاليف الطبية الموفرة وزيادة الإنتاجية، وتتولد الوظائف على طول سلسلة الخدمات بأكملها. والحقيقة الخامسة، هي أن 3.6 مليار شخص على مستوى العالم لا يمتلكون دورات مياه بشكل سليم. والحقيقة السادسة، هي أن دورات المياه ونظم الصرف الصحي التي تدعمها تعاني من نقص التمويل أو سوء الإدارة أو الإهمال في أجزاء كثيرة من العالم، وما يصاحب ذلك من عواقب مدمرة على الصحة والاقتصاد والبيئة، خاصة في المجتمعات الأشد فقراً وتهميشاً. والحقيقة السابعة والأخيرة، وتتعلق بالنساء والأطفال، إذ أن وجود دورات المياه في المنازل والمدارس وأماكن العمل يساعدهن على الاستفادة الكاملة من امكانياتهن وتأدية دورهن الكامل في المجتمع، وخاصة أثناء فترة الحيض والحمل.
وفي الختام، وحتى لا يضيع الجهد المبذول في تحسين ومد نطاق شبكة الصرف الصحي هباءً، وللحفاظ على كل نقطة من مياه الشرب، وحتى لا يتسبب هدر مياه الشرب في ضغط هائل على شبكة الصرف الصحي، نرى من الضروري أن يتم تعميم تركيب عدادات مياه الشرب في كافة ربوع المحروسة. حفظ الله مصر وشعبها وجيشها من كل مكروه وسوء.