ماذا كشف العلم والفضاء من أسرار الكون ؟ (3)
ماذا كشف العلم والفضاء من أسرار الكون ؟ (3)
نشر بجريدة الوطن الجمعة 13 / 11 / 2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
إهمال معظم الناس في زماننا للتوبة الفعلية الجادة ، هو الذي زاد في ضعف دين اليوم وتواريه في قلوب وعقول البشر، وأوجد ما يشاهد الآن هنا وهناك ـ من تظاهر البعض بالذقون والخطف والقتل وتكفير الخلق ابتغاء السيادة والحكم باسم الدين المسكين الذي لا صلة له على الإطلاق بهذه الألاعيب الملتوية على النفس والغير ، وربما كان في انتشار البطالة وضيق اليد واتساع رقعهما في السنوات الأخيرة بمختلف البلدان .. ربما كان لهذا وغيره دخل في انتشار هذا الهوس الذي يغذيه ثراء بعض الأثرياء ، ومعونة بعض الحكومات المرتبكة المنعزلة لمقاومة اطراد ارتباكها وانعزالها الذي يودى بها !! .. إذ يعانى عالمنا من سنوات كسادًا غير مسبوق ، وزيادة هائلة في السكان، ونضوبًا في الموارد ، وهبوطًا في الكفايات والقدرات، وتبديدًا مزعجًا للأوقات والأعمار في المكيفات والسهرات والتنقلات والسياحات والملاهي والملاعب ، مع سقوط الذمم وندرة الأمانة والاستقامة .. فنحن لأول مرة نعانى ضيقًا عالميًا يشمل الأرض كلها !.. لم يسبق له مثيل من قبل !.. يحتاج بغير تلكؤ إلى علاج عريض يستلزم تعاونًا وتكاتفًا من الدول اليقظة، وإلى قرع نواقيسها لمقاومة مشتركة وعامة ، تتصدى لهذا الوباء الذي يزداد فتكًا يومًا بعد يوم !
ثم إننا في حيرتنا الشديدة التي نشعر بها اليوم مضاعفة عدة مرات عما كانت لدى آبائنا وآباء آبائنا في الماضي الطويل المتطاول الذي نعرف بعضه ونجهل معظمه لقلة الحيلة .. هذه الحيرة خلقية فيما نفهم ـ لأننا لم نعرف ولا نعرف حتى الآن وربما إلى مستقبل ـ لا نعرف حقائق أنفسنا إلا من خارجها وفي خارجها، ويستحيل علينا أن نعرف داخل كل منا معرفة تامة كما يعرفها صانعها عز وجل .. وإذا كان يمكننا اليوم أن نرى رأي العين ماديًا عن طريق الأجهزة مكونات داخلنا وعناصرها وتركيباتها الدقيقة، إلاّ أننا لا نعرف عمق هذه الدقة ولا أصلها وكيف كونت ومن أي ومن أين وممن ولماذا وإلى أين؟!
إننا نولد لنعيش أعمارنا، لكن لا نُصنع على أعيننا، أو عيون آبائنا وأمهاتنا .. لا بمهاراتهم أو فنهم أو علمهم أو قدرتهم أو حصافتهم .. فهم بدورهم جاءوا للدنيا ولم يكونوا من قبل بتاتًا لدى آبائهم وأمهاتهم .. لا جسمًا ولا فكرًا ـ ولم يَعُد ولن يعود لوجودهم أثر حىّ باق ! .. بهذا العلم يعيش كل منا حياته ! وهو على محدوديته لا يدركه أو يعلمه سوى الآدمي المتأمل، أمّا ما دون الآدمى فلا يسأل نفسه أو غيره ممن دونه مثل هذا السؤال .. فنحن في مستوانا فوق ما تحتنا وتحت ما فوقنا، فهذه درجات خلق وليست درجات مخلوقين !
وطبيعي أن ننسى كل ذلك أغلب الوقت ـ كأحياء منحوا الإحساس بالذات « الأنا » المحوطة بالتفاوت في الأزمنة والأمكنة وفي المعارف والعواطف والشهوات .. والترقي أو الانحطاط فيها !
ونحن جميعًا في هذا التغير والتقلب المستمر منذ وجودنا على هذه الأرض .. نتعرض للهلاك جميعًا إن زدنا في الكثرة السطحية الغافلة مع نقص العدد الكافي الواعي منا لمقاومة الكثرة الحمقاء .. وحتى الآن توجد وتتكاثر الكثرة الجاهلة، ويحذو حذوها قلة حمقاء تحاول أن تتكاثر .. تمضى الأمور عشوائية بغير نظام ولا ترتيب وتنسيق .. لأن الكثرة لا تثق في كثرتها ولا تتدبر أو تتصرف إلا بعشوائية لا يمكن أن تعيد الأمور إلى اعتدالها وانسجامها كما كانت من قبل في الماضي القريب أو البعيد !
ونحن عادة لا نحسب حساب الأقدار ، وحسابها غير حسابنا الساذج الوقتي .. ولو لاحظنا بعضه ـ وهو كل ما يمكننا ـ لعرفنا طريقنا وسرنا فيه بلا عوج .. وربما كان التعرض للاعوجاج من خصائص الاختيار وإمكاناته التي يشعر بها كل منا في نفسه صغيرًا كان أو كبيرًا. وهو مجال وميدان مفتوح أمامنا معظم الوقت لاستعمال ما نسميه الإرادة ومعنى أوسع نسميه الحرية .. فالإحسـاس بالاختيار يولد الإرادة والإرادة قد تصل بنا إلى الحرية ، والحرية تحتاج إلى عقل وفهم وأمانة . أما الحرية المعتادة النسبية للأفراد في الأمم والجماعات في الماضي والحاضر ـ هنا وهناك .. فهي دائمًا خاضعة بالخضوع اللازم الملازم من قرون ودهور ـ لحكم حاكم منفرد أو متعدد .. فرعونًا أو خاقانًا أو سلطانًا أو ملكًا أو أميرًا أو رئيسًا أو هيئةً أو رياسةً .. يتبع ذلك سيل لا ينتهي ممن هم مرءوسون لمن فوقهم ورؤساء لمن تحتهم تدريجيا ـ إلى آخر شيخ في نجع ناءٍ يحكم أهل النجع بصورة ما حكمًا صارمًا أو مائعًا لخاضعين طيبين مستسلمين أو ماكرين في الأغلب الأعم .. إذ لم ينقطع الخبث والدهاء والمكر والأنانية قط ـ في أفراد الآدميين منذ أن وجدت جماعة تجمعهم يعيشون فيها ومعها وبها كلٌّ نفسه وذويه .. إذ الآدميون منذ وجدوا تتنازعهم وتتأرجح في داخلهم نوازع الخير والشر معًا، قد يغلب هذا أو ذاك، ولكنهما لا يتعادلان .. إذ لا يعيش كل فرد خيّرًا دائم الخيرية إلى أن يموت، ولا شريرًا يفرز الشر في كل لحظة إلى أن يزول .. فكفة ما في داخل كل منا قد يغلب عليها في حياتها الخير في الجملة فينفع وينتفع ، وقد يغلب عليها العكس في الجملة فيؤذى ويُؤْذَى .. ذلك أن الجماعة البشرية لكـى تبقـى بتوالـي أفرادها وزيادتهـم ـ لا تستغنى عن حد معقول من التناسل والتكاثر، وعن حد معقول من وجود التعاون والألفة بين معظم أفرادها، لأنه إن اختل وجود هاتين النعمتين اختلالاً جسيمًا زال توازنهما، وبادت الجماعة بسلوك أفرادها، كما تبيد بكارثة طبيعية أو تبيد بغزو من جماعة أخرى أقوى وأغلظ وأشد شراسةً وجشعًا وخبثًا !
والتأرجح بين الصفاء والعداء موجود بين الجماعات منذ وجدت .. لأنها مجاميع آدميين يفصل بين كل منها فواصل عميقة .. عرقية خلقية مادية ومعنوية وإقليمية وتاريخية .. ربما تذوب هذه الفواصل في مستقبل ما إن اتسع مجال الحياة المعقولة لكل آدمي، واختفت الحاجة والطمع والأنانية ، ونسى الآدميون الغرور وتوابعه !
ومع اختلاف الأنا اختلافًا مؤكدًا في كل آدمي .. نجد أن التقارب لا يكف تكوينه كما لا يكف التباعد أيضًا .. ونرى أن محاولات التصاق الأحياء بأمواتهم ومعارفهم ـ محاولات أقرب إلى السطحية .. لأنها تذكارية لا تعدو محاولات الأحياء تذكر الماضين من الأقارب والمعارف .. أغلبها إما استحسان وإما عكسه وكلاهما لا يخلو من العواطف السطحية أو المغالاة !
ومن يتأمل في حياة البشر ماضية وحاضرة بشىء من الإمعان ، يحس أنها أمواج تتدفق باستمرار ، مختلفة السرعة بين الاندفاع وبين الركود .. وقلما تبقى في حدود التوسط والاعتدال والتعقل .. ويحس أيضًا في تأمله أن هذه الأمواج تنقطع حتمًا مع نهاية كل حى كائنًا من يكون، ولا يبقى منه إلاّ أقل القليل في الذاكرة أو في الكتب أو الآثار أو الفنون أو العلوم أو الآداب أو السير أو السياسة أو الصناعات والحرف أو التاريخ .. ساعدَنَا على ذلك ـ بقدر ما ـ تيار الحياة المتدفق لدى كل منا .. إذ ينسى كل منا أطوار حياته كما كان يعيشها ، وذلك بمجرد انتقاله انتقالا حقيقيًا من طور إلى طور .. ولو دقق لوجد أن حركاته التي لا تنقطع تتشابه ، لكنها دائمًا متغيرة من لحظة إلى أخرى .. ناهيك بالانتقالات والمتغيرات من سنة إلى سنة ومن عمر إلى عمر ومن جيل إلى جيل !
يستحيل على جيل حىّ أن يحيا حياة جيل سابق أو قديم ـ إلا حياة متكلفة غير صادقة .. ويستحيل على كل حىّ أن يحاكى حياة أبيه أو جده أو من هو أبعد من ذلك محاكاة صادقة جادة .. وتقليد الماضين هذا التقليد الأعمى ـ خرافة ! ولكن من حق كل جيل أن يأخذ بفضيلة كانت عند الماضين إن عرف كيف ينجح في تقديمها لجيله وزمنه، أو أن يؤيد في جيله حقيقة عرفت في الماضي على نحو معين وأن يهذبها هو على نحو نافع يلائم حاضره وحاضر من يعيش حياته معهم .