ماذا كشف العلم والفضاء من أسرار الكون ؟ (2)
ماذا كشف العلم والفضاء
من أسرار الكون ؟ (2)
نشر بجريدة الوطن الجمعة 6 / 11 / 2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
وعى الآدمي ـ فيما يبدو ـ دائب التقلب والتنقل باستمرار .. من شيء إلى شيء، ومن مراد إلى مراد ، ومن معنى إلى معنى .. يجرى ذلك بحسب تقلبات عواطفه وآماله ومخاوفه وأطماعه وتدخلات ، وكذا تقديرات ما تسمح به النفس أو الأنا لعقله على درجة ما بلغه من دراية وغاية !.. وغالب الحال على نفوس الناس. هو موالاة « الأنا » وتلبية مرادها لا مراضاة العقول التي نادرًا ما يستجاب لها إن نصحـت بما تأباه النفوس !.. والعجيب أن هذا الخضوع متسرب حتى في النشاط العلمي والمعرفي والأدبي والفني في صور الآراء والحلول والنظريات والاقتصادات لدى الأدمي!
ونحن جميعا كثيرًا ما نقول ما لا نريده فعلاً وما لا نقصده وما لا نعرفه وما لا ننفذه .. لأننا لا نأبه له أكثر كثيرًا جدًّا مما نقوله قاصدين منفذين .. إلا أن يمنعنا مانع خارجي يحول دون التنفيذ، أو مانع طرأ ولم نكن نعرفه أو لم نكن نلتفت إليه .. غَيّر عندنا ما كنا قد قصدناه حتى إن كنا قد بدأنا في تنفيذه !
ولسنا نتبع حتمًا ـ ما قلناه أو ما نقوله وننفذه .. شفويًا كان أو مكتوبًا أو مطبوعًا أو مسجلاً .. لأن كل آدمي قُلّب خُلّب .. تتوالى وتتدافع فيه بغير انقطاع ، وتتعدل وتتطور ثم تتغير ـ أفكاره وقراراته تبعًا لتغير الأمكنة والأزمنة وانتقال الأعمار وتغير الظروف والأحوال والخبرات .. وهو تغير لا يبعد كثيرًا في التأمل وإمعان النظر ـ عن تغير الجنين المتوالي بغير انقطاع ، من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى باقي أطواره حتى لحظة مولده ، وعندها ينفصل إلى حي آخر له ذاته أو أناه ، وبعد قليل تسير معه « أناه » في طريقه هو ، وليس في ذات طريق الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت .. وقد يتشابه وقد لا يتشابه بالنسبة لهذا أو ذاك من هؤلاء برغم القرابة في الحالين ودرجتها وشدتها . ولذا يجوز أن يشتد الالتصاق في أفراد أسرة وأن ينعدم في أخرى إلى حد القطيعة !!
والبشر مثلهم مثل كل الأحياء الأخرى ، يتوالدون أو يفرخون أو يفرزون أو ينبتون ، لكن لا يصنعون هم ما ينتجون من الأحياء .. ولذلك كان كل ما يتوالده البشر .. القديم والجديد .. مفروضًا ليس منه مناص .. حتى في الأحوال القليلة جدًّا التي يتدخل فيها الطب والعلم لتوجيه نواح في الجنين قبل مولده !
فالبشر ضمن جميع الأحياء في أرضنا ، يعيشون دائمًا على السطوح وليس على الأعماق من عملية الخلق .. ولن يتجرد الآدميون قط من هذه السطحية .. عالمهم وجاهلهم ، كبيرهم وصغيرهم ، غنيهم وفقيرهم ، متحضرهم ومتخلفهم .. وبدون سطحية الآدمي الملازمة له بالطبيعة ـ ما أمكنه أن يتحضر بل ما أمكنه أن يعيش .. لا هو ولا أي حي آخر على الأرض .. فلولا سطحية الآدمي وانطلاقه فيها وتطوره معها وإصراره على الاندفاع فيها ما وجد أحد منا الآن على الأرض !
لأن « أنا » كل آدمي هي التي تشعر أولاً بوجودها هي بداية ونهاية، وتشعر في كل حين ما بقيت بذاتها وغرائزها وعواطفها وشهواتها ومخاوفها ومطامعها وأملها ويأسها .. وبهذا فقط يمكن أن تشعر بأصداء شعور الآخرين .. آدميين وغير آدميين أقرباء أو غير أقرباء من الأحياء الموجودين أو كانوا موجودين ثم رحلوا !
فلا ينبغي أن نرفض السطحية التي هي في أساس الآدمي ، ولكن المتاح والواجب أيضًا أن نرفض الوقوف عندها والمغالاة فيها ، لأنها عندئذ تحول بين الآدمي وبين الترقي الدائم في الفهم والنضج والمعرفة والتمسك بدوام الترقي من جيل إلى جيل والإصرار على استمرار الزيادة في ذلك الترقي، ولأن هذا الحافز هو الذي يحول بيننا وبين التراخي والتوقف والقعود وما يصحبه حتمًا من شدة الأنانية لدى الكبار والصغار والأغنياء والفقراء .. هذه الأنانية التي تؤدى إلى التسلط والحقد والطمع والحسد والغرور واليأس العميق الملازم .. وهذه الأدوار المتعاقبة في تاريخ البشر ـ أكثر كثيرًا من تعاقب أدوار الانتعاش والنهوض والرغبة العامة في الارتقاء !
ونحن نسمى بالطبيعة كل ما فينا مما نحس به وما لا نحس مما وجدنا عليه ونوجد وسنوجد إلى أن يفنى الآدمي ، ونسمى به كل ما هو موجود ومحيط وقريب وبعيد وكان ويكون وسيكون .. ما دمنا ودام وسيدوم في تصورنا ـ بتواليه المطرد في هذا العالم الذي مازال يزداد في أنظار الأحياء ـ اتساعًا وعمقًا لدى كل حىَ إلى أن يختفى !
وقد عرفنا وسنعرف ـ تتزايد قدراتنا أو تتناقص ـ المزيد من ظواهر الكون أو العالم الذي ندعوه عالمنا .. لأنه ليس لدينا تحت حواسنا وأفكارنا بل لوجودنا وزوالنا سواه في هذه الحياة .. والظواهر الطبيعية أحكام وضوابط وقوانين وحركات وأبعاد عرفنا بعضها بعض المعرفة ـ فيما يبدو ، واستسلمنا لها عصورًا ماضية بحسب قدراتنا ، ثم غيرنا عمليات الاستسلام باستمرار يتفق مع تطورنا .. هذا التطور الذي اعتقدنا صوابه إذ ذاك، والذي نعتقد صوابه الآن، والذي سنعتقده إن شاء الله تعالى في المستقبل برغم ما يعرجه من تعريجات أغراضنا ومطامعنا وشهواتنا !!
وقد كنا إلى عهد قريب نتمنى التوبة ويحاول أغلبنا خاصة كبار السن ، تحقيقها بقدر ما يفهم كل منا ويستطيع .. وهى فيما نستطيع أن نتصوره باختصار واقتصار ـ هي الانتقال من الحيوانية إلى الإنسانية .. لأن الآدمي دائمًا حيواني الداخل والخارج من جهة المحسوس الملموس .. وليس من جهة المعنى والروح .. وقد يعيش الآدمي إلى آخر عمره بحيوانيته وتوابعها إلى أن يموت لاختفاء المعنى والروح، وقد تتسع حياته فهمًا وعقلاً وانضباطًا ـ بحيث يرمى الحيوانية وتوابعها دائمًا خلـف ظهره .. لا يبالى بها كما لا يبالى خام الذهب بما حوله من تراب أو مثل اكتمال الورد بأشواكه وأصوله !
وعلى ما نعرفه الآن من أنبياء ورسل الله عز وجل ، ومن الأولياء والصالحين ، نرى بعضهم قد هجر ماضيًا غثًا كان عليه وهجره كلية .. هجر من حيوانية سطحية ظاهرًا وباطنًا ، إلى إنسانية تامة حتى الموت .. حدث ذلك بشدة ما كان لكل منهم في زمنه من الإمعان المتواصل فعرف به ومنه أمان المولى عز وجل وعطفه ، والتصق به سبحانه وتعالى التصاق الوليد بوالدته ـ إلى آخر حياته على هذه الأرض .. وكان لكل منهم أتباع زاد عددهم بمرور الزمن ـ إلى غير حد ، ولكن نقصت توبتهم في زماننا هذا إلى غير حد ، إلاّ أقوالاً وشعارات نقوم بها ونقعد ـ جوفاء تتكرر وتعاد ـ لا تعوق اطراد الحيوانية وانتشارها .. لم نعد نخاف الغيب ولا نفكر في الآخرة ولا نبالى بالحساب والعقاب .. لا في دنيانا ولا أخرانا !! .. لم يبق للآدمي إلا دنياه .. فلا غرابة فيما نراه لدى الغالبية من الجشع والطمع والنهم والحقد والغدر والحرب والتدمير !!.. وهى دنيا الأناني التام يتقلب فيها بين الغنى المفرق والفقر المدقع وبين الانتهاز والافتراس ، والضحايا والمشردين .. في دنيا اليوم بلا غد ولا مستقبل لا هنا ولا هناك .. بما رحبت ضاقت دنيانا في عيوننا ونفوسنا وعواطفنا وعقولنا!! فهل لم نعد نهتم بالمصير البشرى ؟!