ماذا ترى الأرض إن ترصدها من زحل ؟!

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 2/10/2021

ـــ

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

من يقرأ مذكرات سعد زغلول ، يعرف كم كان هذا الزعيم صادقًا صريحًا مع نفسه ومع التاريخ ، فأورد فيها عيوبه ونقائصه مثلما أورد بطولاته وأمجاده .. لم يخف أنه كان يشرب أحيانا ، ولا أنه كان يلعب القمار من وقت لآخر .

عن هذه الصراحة الفذة والصدق الهائل مع النفس ، كتب عباس العقاد فى كتابه : « سعد زغلول سيرة وتحية » .. كتب يقول إن لكل عامل فى الحياة السياسية صفحة من الحسنات وأخرى من السيئات . وليس الوزير الصالح هو الذى تخلو حياته السياسية من السيئات ، فهذا غير موجود ولن يوجد ، ولكنه الوزير الذى تربى حسناته على سيئاته وترجح فضائله على عيوبه . ثم يضيف :

« لم يبرأ سعد من أخطائه ولا حاول أن يسترها ، بل اعترف بها اعتراف الرجولة الجريئة ، فقال فى إحدى خطبه بالجمعية التشريعية : أعترف أنى وأنا وزير ـ قد عملت بحسن نية وإخلاص عملاً لو عرض علىّ اليوم لكنت أول المعارضين له . فقد عرض علىّ قانون المطبوعات فعارضت فيه أولاّ ثم لم ألبث أن وافقت عليه واشتركت فى تطبيقه لظروفٍ بررتها فى ذلك الوقت أمام نفسى، وها أنا اليوم نادم على ما فعلت بالأمس »  !

وقال سعد زغلول أيضا : « كنت قاضيًا وكنت وزيرًا ، وها أنا اليوم عضو بينكم فى الجمعية التشريعية ، وأحس فى نفسى بأن شعورى كان يختلف باختلاف تلك المراكز جميعها ، وإنى ربما كنت أرى الرأى فى حالة ثم أرى غيره فى حالة أخرى . ومع ذلك كنت حسن النية فى جميع الحالات ، فلا تهولنكم أشخاص الوزراء (وهذا بيت القصيد ) ولا الفضل الذى تعرفونه فيهم ، فقد تتغلب عليهم مراكزهم فيعملون بحسن نية ما يظنون أن فيه فائدة للأمة وليس هو كذلك » !

أين هذا الكلام الموضوعى الرفيع من ثقافة الصخب والهدير التى طالت حياتنا فى كل باب ، وأين هذا التواضع والتطامن والصدق فى المصارحة بأن كل ما صدر عن الزعيم لم يكن صواباً كله ، وأنه كما أصاب قد أخطأ ، وأنه يأسف على ما نصره وكان يظنّه حقاً ؟! .. أين هذا الصدق والتطامن من عقيدة « كامل الأوصاف » التى بات كل صاحب موقع يؤمن بها ويعتقدها فى نفسه وينزلها فى وجدانه وسلوكه منزلة اليقين الذى لا يقبل مراجعة ولا تعقيبا؟! . فرأيه هو الصواب ولا صواب غيره ، وكلمته هى الحق ولا حق سواها ، وأمره هو النافذ ولا قيمة ولا نفاذ لأمر غيره !

ترى كم هو حجم الكثبان الرملية وذرات التراب التى زحفت وغطت وحجبت على مدار السنين ما كنا عليه بأمس .. ما الذى هبط بقيمة الصدق مع النفس ومع الغير ، وما الذى ران على وظيفة الكلمة حتى انحصرت فى القشور أو الزيوف وأعطت ظهرها للجد والقيمة والاستقامة , ولم يعد المتقولون يحفلون بمصداقيتها , ولا بربطها بالفعل والسلوك , وإنما صار الكلام هو الغاية , وتوارى ما أمرنا به القرآن الكريم : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ » ( الصف 1 , 2 )

هذه التراكمات فعل فاعلين وفعل مسايرين وفعل ساكتين ! نحن جميعًا حاكمين  ومحكومين شركاء فى ابتعادنا هذا المبعد عن فضيلة الصدق واستقامة الأداء . آفتنا فى كل أحوالنا الغرور والكبرياء القاتل الذى قاومه المحامى الشاعر المفكر الأديب محمد عبد الله محمد بالسخرية فيه من نفسه حين قال  :

ماذا ترى الأرض إن ترصدها من زحل / وهل ترانى وأبعــادى وأمجــادى ؟!

/ نخفـى ونصمـت غــرقى فى ضآلتنا / فيم احتجاجى وإنكـارى وإيعــادى ؟!

توارت أو كادت فضيلة التطامن , وحل محلها الكبر والغرور وتفخيم الذات , حتى تكاد تنفجر داخل صاحبها من فرط غطرسته وعقيدته بأنه يملك ما لا يملكه سواه من العلم والثقافة والمعرفة والحكمة وصواب الرأى الذى لا يخطئ قط !

زر الذهاب إلى الأعلى