
لغة بصمة السلاح
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
كيف يمكن لطلقة خرجت في لحظة انفعال أو تصميم أن تظل محتفظة بالحقيقة كاملة؟ وهل يعقل أن قطعة معدن صامتة، لا عقل لها ولا ذاكرة، تكون أصدق من عشرات الشهادات البشرية؟ ولماذا يصرّ خبراء الطب الشرعي، ومعهم القضاة، على أن السلاح لا يكذب حتى لو كذب حامله؟ وهل ما يُسمّى بـ«بصمة السلاح» حقيقة علمية دقيقة أم مجرد توصيف مجازي بالغنا في استخدامه؟
في مسرح الجريمة، قبل أن يبدأ الجدل القانوني، وقبل أن تتضارب الأقوال، يكون هناك شاهد واحد لا يخطئ: المقذوف. الرصاصة التي استُخرجت من جسد، أو من جدار، أو من أرضية صلبة، لا تأتي إلى يد الخبير خالية، بل محمّلة بما مرّت به منذ لحظة انطلاقها. هي لا تحمل اسم الجاني، لكنها تحمل توقيع السلاح. وهذا التوقيع لا يُكتب بالحبر، بل يُنقش قسرًا أثناء عبورها داخل السبطانة، حيث لا تمر الرصاصة مرورًا حياديًا، بل تُجبَر على الدوران، وتُحتك بجدار داخلي غير مثالي، مليء بتفاوتات دقيقة لا يراها غير المتخصص.
السبطانة هنا ليست مجرد ماسورة، بل هي مسار قهري، وكل سبطانة- مهما تشابهت صناعيًا مع غيرها- تبدأ منذ أول استخدام في تكوين شخصيتها الخاصة. الششخان، تلك الخطوط الحلزونية المحفورة داخلها، تفرض على الرصاصة حركة دورانية، لكن هذه الحركة لا تتم بسلاسة هندسية مطلقة؛ بل تتم عبر احتكاك، وضغط، واحتواء قاسٍ، فتلتقط الرصاصة آثار هذا العبور: خطوط طولية، تفاوت في العمق، انتظام هنا، واضطراب هناك. ومع كل طلقة، تتغير السبطانة قليلًا، ويزداد تفردها، تمامًا كما تتغير ملامح الإنسان مع الزمن.
وهنا يظهر المعنى الحقيقي لبصمة السلاح. ليست البصمة شكلًا واحدًا يمكن تقليده، بل مجموعة معقدة من الخصائص الفردية: عرض الششخان، عمقه، زاوية ميله، درجة تآكله، إضافة إلى آثار عارضة ناتجة عن صدأ، أو تنظيف خاطئ، أو استخدام كثيف. هذه العيوب- التي يظنها غير الخبير عيوبًا عشوائية- هي في الحقيقة عناصر التفرد. فالسلاح الذي تعرّض لتنظيف عنيف بسلك معدني سيترك على الرصاصة علامات مختلفة عن سلاح نُظف بعناية. والسلاح الذي أُطلق به عدد كبير من الطلقات لن يترك نفس الأثر الذي يتركه سلاح شبه جديد. هذه الفروق لا تُقدَّر بالعين المجردة، لكنها حاسمة عند الفحص الفني.
ولا تقف الرصاصة وحدها شاهدة، فهناك الظرف الفارغ الذي غالبًا ما يُهمل في وعي العامة، بينما يراه الخبير وثيقة لا تقل أهمية. إن الظرف يحمل توقيعات ميكانيكية متعددة لا يتركها المقذوف، وهي مجتمعة تُعرف بالبصمة الهيكلية للسلاح. أول هذه الآثار هو المزيب، وهو الجزء الذي يضرب الظرف لإشعال الطلقة، ويترك أثرًا دقيقًا يشبه الختم يختلف في شكله وحدّته وعمقه من سلاح لآخر. بالإضافة إلى ذلك، هناك آثار القاذف (Ejector Marks) وآثار الماسك (Extractor Marks) التي تظهر على حافة الظرف أثناء سحبه وطرده من غرفة الانفجار. تختلف هذه الآثار في شكلها، وموقعها، وزاوية ضربها للظرف، وتُعد مع بصمة المزيب عناصر جوهرية للمضاهاة البالستية. وحين يُفحص الظرف، يمكن للخبير أن يقرأ فيه ما لا يقوله المقذوف: نمط الضرب، انتظامه، وربما دلالة على عيب ميكانيكي أو تعديل غير مشروع.
في القضايا الواقعية، كثيرًا ما تكون الحقيقة مخبأة في هذه التفاصيل الصغيرة. رصاصة مشوهة، ظن البعض أنها فقدت قيمتها، كانت كافية لأن يحتفظ جزء صغير منها بخطوط ششخان واضحة. ظرف بلا بصمات أصابع، لكنه يحمل علامة مزيب فريدة وعلامات قذف مميزة. سبطانة حاول صاحبها كشطها، فخلقت خدوشًا جديدة أكثر وضوحًا من القديمة. كل محاولة إخفاء، في هذا العلم، تترك أثرًا إضافيًا بدلًا من أن تمحو ما قبلها.
الطب الشرعي التقليدي علّمنا كيف نرى هذه العلامات، وكيف نقارن بين طلقة مسرح الجريمة وطلقة اختبارية أُطلقت من السلاح المضبوط. كان المجهر المقارن هو الأداة، والعين الخبيرة هي الحكم. ثم جاءت التقنيات الرقمية، لا لتنسف هذا الأساس، بل لتدعمه. تستخدم هذه التقنيات (مثل نظم قواعد البيانات البالستية الآلية) التصوير ثلاثي الأبعاد لإنشاء خريطة طبوغرافية لآثار البصمة، وتتيح مقارنة سريعة ودقيقة للآلاف من المقذوفات والأظرف في قواعد بيانات واسعة. صارت العلامات تُقرأ ثلاثية الأبعاد، وصار العمق والارتفاع والانحراف أرقامًا، وصار التطابق يُعرض بلغة إحصائية تزيد من يقين القاضي. لكنها لم تُلغِ دور الخبير، لأن الآلة لا تفهم السياق، ولا تميّز بين أثر ناتج عن استخدام طبيعي وأثر ناتج عن تلاعب متعمد.
وهنا تلتقي الخبرة الفنية بالقانون الجنائي. فالقاضي لا يبحث عن الإبهار التقني، بل عن الاطمئنان. والاطمئنان لا يصنعه رقم مجرد، بل تفسير علمي صادق، يشرح كيف ولماذا يتكلم السلاح. وعلى الرغم من وجود نقاشات أكاديمية حول القيمة الإحصائية للتطابق التام، يبقى المبدأ العلمي “بصمة السلاح” راسخاً: الفروقات المجهرية الفردية التي تتركها السبطانة والأجزاء الميكانيكية الأخرى تجعل التطابق الكامل بين سلاحين مختلفين أمراً مستحيلاً عملياً في سياق الأدلة الجنائية. وعندما تُعرض هذه الحقيقة بلغة واضحة، غير متكلفة، يصبح الدليل البالستي من أكثر الأدلة رسوخًا، لأنه لا يعتمد على ذاكرة إنسان ولا على صدق شاهد، بل على أثر مادي لا مصلحة له.
وهكذا نعود إلى الأسئلة الأولى. نعم، الرصاصة تتكلم، لكن لمن يعرف لغتها. نعم، السلاح يترك بصمته، ليس لأنه يريد، بل لأنه لا يملك خيارًا آخر. ونعم، هذا العلم ليس ضربًا من الخيال، بل خبرة تراكمت عبر آلاف القضايا، حيث ثبت مرة بعد مرة أن الحديد – على برودته-أصدق من البشر. وفي الخاتمة، يمكن القول إن بصمة السلاح ليست فكرة تقنية فحسب، بل فلسفة عدالة. فلسفة تقول إن الحقيقة قد تكون صغيرة، دقيقة، مختبئة في خدش لا يُرى، لكنها لا تضيع. وبين لحظة ضغط الزناد ولحظة وقوف الخبير أمام المقذوف، تظل الحقيقة محفوظة، تنتظر من يقرأها بصدق، ويقدمها للقضاء كما هي: كاملة، صامتة، وقاطعة. والله من وراء القصد.