لغة القانون وِعاءُ النِّظامِ القانونيِّ الوطني المصري (مفهومها وعناصرها- برامج تعزيزها– طرق حمايتها)
بقلم د. محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
(1)
هذه سلسة من المقالات تعني بلغة القانون من حيث مفهومه العام، تلك اللغة العربية الفصيحة الشريفة ذات التراكيب المحكمة و المدلولات المحددة، وهي وإن كانت تقع ضمن سَنَنِ ونظام اللُّغَةِ العربية الفصيحة إلا أنها تتميز بسمات وخصائص تركيبية ( شكلية ) ودلالية (معنوية) على قدر من التميز عن باقي ضروب اللغة ودروبها ، فهي على سبيل المثال لغة وصفية تقريرية أكثر منها إنشائية بلاغية ، وهي تُعنى ابتداء بالحقائق والموضوعات والمضامين أكثر من عنايتها بالمشاعر والإحساسات والتصورات .
وما ذلك إلا لأنها تعالج موضوعات ذات أهمية قصوى بالنسبة للمجموع العام من الناس في القُطر الواحد بحسب اتساع وانبساط نطاق سلطة الدولة وقانونها ، وهي الحقوق بكل أنواعها ومشمولاتها والمراكز القانونية على تعددها وتنوعها ومتعلقات هذا وذاك .
وتنطلق سلسلة المقالات هذه عن حقيقة كاشفة لـ” لغة القانون” من حيث كونها مقوما جوهريا من مقومات الدولة القانونية ، ووعاء للنظام القانوني الوطني المصري ، بداية من التشريع الأساسي “الدستور” ، فالتشريع العادي “القوانين” ثم التشريع الفرعي حيث “اللوائح والقرارات” .
وهذه واقعة مسطورة ، وحقيقة جلية عبَّر عنها نصُّ الدستور 2014م مادة (2) :” الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية“. وكذلك نصَّ عليها قانون السلطة القضائية المادة (19)“لغة المحاكم هي اللغة العربية” فالأصل في لغتي القانون والتقاضي وما يتعلق بهما هو “اللغة العربية” وهذا ما يقتضي بالضرورة الاهتمام بهذه اللغة الشريفة ، لغة القطر المصري ومقومه الحضاري ووعاؤه الثقافي ولسانه القانوني والعمل على نشرها وتعزيزها وحمايتها.
وتتناول هذه السلسلة على امتدادها عدة موضوعات رئيسة بهدف لفت نظر السادة القانونيين إليها ، وتوجيه انتباههم إلى أهمية العناية بها انتهاء إلى العمل بمقتضاها لتعزيز لغتهم القانونية وتيسير سبل التمهر بها ونشر ثقافتها وتوفير مصادرها وأوعيتها المعرفية، بما يؤدي إلى حفظ سر مهنتهم وحماية لغتهم من ابتذالها والتلاعب بها أو تحريفها وتصحيفها ، أو شيوع الجهل بها من قِبل أهليها وذويها وخاصة تلك الأجيال المحدثة من القانونيين
أما عن موضوعات هذه السلسلة فهي ثلاثة موضوعات :
الموضوع الأول : مفهوم لغة القانون وعناصرها
يعتبر الوقوف على المفاهيم بصفة عامة من الأهمية بمكان للمتخصصين فيه والعاملين في حقله فلا يعدُّ من الترف غير اللازم في معظم الأحوال فهو هنا لازم وحتم على القانونيين لفهم جوهر لغتهم “لغة القانون” على المستوى النظري ، ولمساعدتهم على فهم ( ماصدقها) واقعها العملي ، ولأنه عن طريق المفهوم تتمايز اللغة القانونية الشريفة عن غيرها من اللغة الإنشائية أو اللغة الأدبية ومن ثم تتمايز نصوص القانون عن غيرها من نصوص الأجناس الأدبية الأخرى.
وكذلك فإن مفهوم لغة القانون يعطيها مكانتها ويمنحها اعتبارها ومركزها الخاص في مؤسسات الدولة ونظامها ولدى المخاطبين بها من القانونيين ومن عموم المخاطبين الآخرين المكلفين بأحكام القانون …على ما سيأتي تفصيله .
الموضوع الثاني : برامج وأدوات تعزيز لغة القانون
هذا بالإضافة إلى ما يتعلق بهذه البرامج وتلك الأدوات من عمليات نشر ثقافة هذه اللغة القانونية والتشجيع على التمهر بها واكتساب خبراتها والتمكن من مهاراتها …
وفي غيبة وجود برامج محددة أو مشاريع معينة تعنى بلغة القانون ؛فإنه تعظم الحاجة إلى مثل هذه المواضيع وتلك الأدوات والبرامج التي تعمل على تحقيق فعالية تلك اللغة وأهدافها في الواقع المعاش بين القانونيين على تنوع تخصصاتهم وتباين مجال عملهم .
الموضوع الثالث : حماية لغة القانون ورعايتها وآليات تحقيق ذلك .
وهذا المحور الأخير على وجه الخصوص هو من الدواعي القوية المهمة لهذه السلسلة من المقالات ، ومن ثمَّ فأنا أرى أنه من الجدير البدء به والبناء عليه وذلك لأسباب كثيرة ، أهمها أن التحقيق الفعلي لحماية “لغة القانون” هو ما يعني حتما ضمانا لتحقيق ما سبقه من غايات ومهمات إزاء لغة القانون من مثل تعزيزها والعمل على نشرها والتمهير عليها والتمكين منها وتوفير مصادرها وأوعيتها المعرفية والمهارية … وغير ذلك مما سنأتي على ذكره تفصيلا .
وبداية يمكننا هنا طرح مقترحنا ورؤيتنا لطبيعة وكيفية تحقيق هذه الرعاية المرجوة والحماية المفترضة لجناب لغة القانون ومتعلقاتها .وفي هذا الإطار أخط اقتراحا أحسبه نوعيا وأراه من الأهمية بمكان مطلقا، وهو أن سبيل رعاية لغة القانون وجادة حمايتها إنما يتحقق من خلال تكوين رابطة أو اتحاد أو منتدى خاص لرعاية وحماية هذه اللغة وليكن مثلا :” اتحاد لغة القانون” ، أو رابطة لغة القانون أو منتدى لغة القانون، ويا حبذا لو كان هذا المنتدى أو ذلك الاتحاد أو تلك الرابطة تحت رعاية السلطة القضائية أو نقابة المحامين أو البرلمان أو بالشركة بينهم، فهم أولى الناس بتكوين هذا الاتحاد ورعايته والسبق به وفيه .
وهذا الاقتراح قمين بإذن الله أن يحقق غاية ما يرجى من رعاية وحماية لغة القانون إضافة إلى اضطلاعه بتحقيق باقي الأهداف واللوازم لتعزيز هذه اللغة ونشرها.
وتتجلى أهمية هذا المقترح أنه مقترح منطقي وبادرة واقعية ليس ثمَّ عوائق قانونية أو معنوية تحول دون تحقيقها، إضافة إلى كونها مقترحا نوعيا وعمليا ليس ثمَّ ما ينافسه أو يكافئه– على حسب ما انتهى إليه بحثي – وهو ما يعظم الحاجة إليه ، وعليه فإنه لحريٌّ حال وقع التغافل عنه والتكاسل دونه أو الصدَّ عن دعاته وحاملي لوائه أو تم السماع إليهم مجرد سماع لتبرئة الذمة وإقالة العتب وبانت نية الشروع في إيداعه أدراج المخازن…أو تحنيطه على أرففها تلك الأدراج التي لا تنفتح أبدا … وهذه الارفف التي تدفن الفكر ولا تحييه بتاتا !!
فحينئذ أرى من الضروري تحقيق فرض الكفاية في حماية تلك اللغة القانونية الشريفة والقيام عليها شخصيا وتسجيلها رسميا كجمعية نفع عام مع لفيف المحبين للغة من الزملاء القانون والمؤيدين للمشروع وهم بحمد الله الكثرة الكاثرة .
ثم دعوني أتساءل بالله عليكم هل يُعقل أنه لا يوجد حتى تاريخ كتابة هذا المقال اتحاد أو رابطة أو غيرها من المسميات … ولا حتى بادرة أو مبادرة فردية أو جماعية أو مؤسسية رسمية تدعو فضلا عن أن تقوم على حماية جناب “لغة القانون” وتعنى بنشرها وتعزيز ثقافتها بين القانونيين وتعمل توفير مصادرها ومراجعها وأوعيتها المعرفية…؟!!
ولعل هذا من أهم دواعي هذا المقترح العملي لرعاية وحماية لغة القانون …!!إضافة إلى دواع أخرى كثيرة وضرورية لتأسيس هذا الاتحاد أو المنتدى أو الرابطة … ومن ثم فقد وضعنا مشروع مقترح متكامل بهذا الاتحاد “اتحاد لغة القانون” تم الانتهاء منه وتفصيل جميع أوجه وبرامج تحقيقه وسائر متعلقاته مع دراسة وافية له جارِ تسليمها للمعنيين في النقابة وغيرها من مؤسسات القانون.
وأهم الدواعي أيضا لقيام هذا الاتحاد تلك الدواعي القانونية التي نصَّ عليها الدستور والقانون وجِماعها أن اللغة العربية لغة القانون تعدُّ مُقوِّما جوهريا اجتماعيا وحضاريا وقانونيا من مقومات الدولة المصرية ووعاء النظام القانوني الوطني فيها .
ومن الغريب العجيب أن تلك المكانة السامقة وهذه المنزلة العالية للغة القانون الشريفة لم تترجم في واقع كليات القانون ولا في مؤسساته إلا بالنذر اليسير العارض الذي لا يكاد يذكر …
فلغة القانون لا تدرس في كليات القانون باعتبارها مادة اساسية أو مقررا فرعيا أو حتى كمقرر اختياري ، على رغم تدريس القانون بلغات أخرى فرنسية وإنجليزية وغيرهما …!!!
ومن العجائبِ والعجائبُ جمَّةٌ …!!!
أنه لا توجد – إلى حد ما وصل إليه علمي وبحثي الدءوب في ذلك – جهة ولا مؤسسة حكومية ولا غير حكومية ولا حتى وحِدة جزئية أو كلية قضائية أو تشريعية أو نقابية ولا حتى مبادرة فردية أو جماعية تنادت أو دعت إلى تأسيس رابطة أو اتحاد أو منتدى يقوم على رعاية لغة القانون ونشرها وتعزيزها وحمايتها وتشجيع القانونيين وخاصة المبتدئين على تعلم مهارات لغة القانون أو حتى توفير أدبياتها وأوعيتها المعرفية …!!!! [اللهم إلا ما قد يدرس في المركز القومي للدراسات القضائية – أو فيما يشابهه من معهد قضائي أو غير ذلك من المنتديات الفرعية والعامة على مستوى لا يكاد يذكر من تناول لبعض علوم اللغة وآدابها بقدر يحتاج إلى كثير من التقويم والتقييم…!!!]
إن هذا والله لنبا عظيم وخطب جسيم ….!!!!
أيكون هذا مصيرُ لغة القانون ؟!!
أيكون ذلك مآل نصوص الدستور والقانون الصريحة الوضيحة على أهمية وعظمة هذه اللغة ؟؟؟!!!
أتكون هذه عاقبة ومثوى العاملين في مجال القانون ومؤسسات العدالة ما يقارب من مليون قانوني وعامل في المجال القانوني في مصر- وهم يحدِّدون بتلك اللغة القانونية الشريفة المهملة للأسف …!! مصير حقوق الوطن كافة وحرياته ومراكز أفراده القانونية …إلى غير ذلك – بلا مؤسسة أو جمعية أو اتحاد …يعزز لغتهم القانونية ويشجع عليها ويحميها ويوفر أدبياتها وأوعيتها المعرفية .
ومن ثمَّ يأتي هذا الاتحاد وذلك المنتدى وتلك الرابطة – ولا مشاحة في التسمية- للقيام بدور إيجابي فعَّال في رعاية وحماية لغة القانون وما يتبع ذلك من مقتضيات تلك الحماية.
وبالنسبة لباقي الدواعي الملحة لتأسيس هذا الاتحاد وإنفاذ تلك المبادرة فيمكن إجمالها في العناصر الثلاثة التالية :
العنصر الأول: استجابة لنص الدستور ونصوص القانون في الحفاظ على لغة القانون كإحدى “مقومات الدولة القانونية”
العنصر الثاني :التصدي لظاهرة تدني المستوى اللغوي القانوني وما يتبع ذلك من ظواهر لا تليق بالقانونين من مثل إثارة التعليقات الساخرة من الآخرين ، مع تدني النظرة الاجتماعية للقانونيين وهم من هم في مكانتهم وأهميتهم ؟!!
العنصر الثالث: تأسيس كيان قانوني لغوي (يجمع ما بين القانونيين المهتمين باللغة وما بين اللغويين المتخصصين) لمناقشة لغة القانون ، والحفاظ عليها ودعمها ومواجهة التحديات التي تواجه نموها والعوائق التي تحول دون الوفاء بالتمكن من مهاراتها ومعارفها على الوجه الصحيح . [ يتبع بإذن الله ]