لغة القانون وعاء النظام القانوني الوطني المصري (2)
ركائز التأسيس للغة القانون في التشريع المصري ومدلولاتها
بقلم: د.محمد عبد الكريم الحسيني
لا زلنا في طور التقديم والتعريف بلغة القانون في جانبها الأول من حيث مفهومها وعناصرها، وجدير بنا ابتداء ذكر ركائز (التأسيس للغة القانون في التشريع المصري ومدلولاتها ) ولا يفوتنا في هذا السياق أن ننوه بهذا التأسيس الرصين الذي اضطلعت به محكمة النقض فيما يتعلق بلغة القانون معلقة على النصوص القانونية والدستورية التي أسست للغةِ وعاءً للنظام القانوني المصري حيث قالت في [الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158 ]بأن هذا :” يدل على أن المشرع عدَّ اللغة العربية من السمات الجوهرية والمقومات الأساسية التي ينهض عليها نظام الدولة، مما يوجب على الجماعة بأسرها حكومة وشعبا بحسب الأصل الالتزام بها دون أيه لغة أخرى كوسيلة للخطاب والتعبير في جميع المعاملات وشتى المجالات على اختلافها.
وحرص المشرع على تقنين هذا الحكم في مجال القضاء بإيجاد نص صريح جلي المعنى قاطع الدلالة في أن اللغة العربية هي المعتبرة أمام المحاكم يلتزم بها المتقاضي والقاضي على السواء فيما يتعلق بإجراءات التقاضي أو الإثبات أو إصدار الأحكام. وقد عالج هذا النص الحالة التي يتحدث فيها الخصوم أو الشهود بلغة أجنبية فأوجب ترجمة أقواله إلى اللغة العربية، وحكمه يجري كذلك على سائر المحررات المدونة بلغة أجنبية التي يتساند إليها الخصوم فيتعين لقبول هذه المحررات أن تكون مصحوبه بترجمة عربية لها لذات العله، وتحقيقا للغاية التي استهدفها المشرع من الالتزام باستخدام اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للدولة وإحدى الركائز لإعمال سيادتها وبسط سلطانها على أراضيها مما يحتم على الجميع عدم التفريط فيها أو الانتقاص من شأنها على أية صورة كانت.
والقاعدة التي قننتها المادة 19 من قانون السلطة القضائية بهذه المثابة تعد من أصول نظام القضاء المتعلقة بالنظام العام. فيترتب على مخالفتها البطلان المطلق، ومن ثم يجوز للخصوم التمسك بهذا البطلان كما للمحكمة إثارته من تلقاء نفسها في أية حالة كانت عليها الدعوى.
أما عن تلك النصوص التي أشارت محكمة النقض إليها فهي نص المادة 19 من قانون السلطة القضائية لغة المحاكم هي اللغة العربية. وعلى المحكمة أن تسمع أقوال الخصوم أو الشهود الذين يجهلونها بواسطة مترجم بعد حلف اليمين”.وقبل هذا وذاك هنالك النص الصريح الجلي الذي يعلو كل نص سواه وهو نص دستور2014م وكذلك في الدساتير قبله 1972، 2012م ، ففي مادة (2) :” الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية” ،
ومقتضى هذه النصوص –كما سبق النص على ذلك مرارا – أن اللغة العربية هي شِعارُ الدولة ودِثارُها، وهي مُقَوِّمٌ رئيسٌ وجوْهريٌّ من مقوماتها ومن ثم كان كل ما يتعلق بها من النظام العام، بداية من لغة الدستور وصياغته، وكذلك سائر التشريعات والمحاكمات ومتعلقاتها يلزم أن تكون باللغة العربية، وإلا تسقط الأحكام والإجراءات ومتعلقاتها إلى هاوية البطلان كما نصت محكمة النقض أن “مخالفة ذلك أثره البطلان المطلق . تعلق ذلك بالنظام العام “. ثم إنها عللت ذلك بقولها “وباستناد الحكم في قضائه إلى عقد إيجار محرر باللغة الفرنسية دون تقديم ترجمة لها باللغة العربية مخالف للقانون….”. –[الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158 ]
وهذا يعني أن موارد البناء اللغوي للنظام الفانوني الوطني في صياغته وبنائه وفيما يتعلق به من فَهمِ المعاني وتفسيرها وتحليلها واستخراج دلالاتها ومدلولاتها يجري على سنن ونظام اللغة العربية حتما لا جوازا .وهكذا الوضع في كل ما يتعلق بـ”اللغة العربية القانونية “ – ونعني بها لغة القانون وهي اللغة العربية ذات المضامين والدلالات القانونية – في رسمها وتكوينها وصياغتها وفي تراكيبها، وكذلك في النطق بها وتلاوتها وسماعها وإسماعها والاتصال بها والإيصال عبر أدواتها وفي سائر عمليات التخاطب والتحادث والتشافه وسائر مكتوباتها.
وهذا واضح وصريح وقائم عملا وتطبيقا منذ قضاء الفتح الإسلامي فما بعده، حتى القضاء الحديث، ثم القضاء المعاصر، وقد امتثل الآباء القانونيون العظام لهذه الاصول وراعَوْها حقَّ رِعايتها …فكانوا وما زالوا خير قدوات لنا، ونعم السلف القانوني اللغوي لممارستنا ، فهم القانونيون النابهون على صراط العدالة المستقيم، ومن بهداهم يقتدي الأَصِيلُون في ممارستهم القانونية الشفاهية وفي أعمالهم الكتابية!
كما ويعني ما سبق حقائق حاصلها :
الحقيقة الأولى : أن اللغة العربية هي وعاء التكوين والبناء للنظام القانوني الوطني (لفظا ومعنى- رمزا ودلالة – صياغة ودالة ) بداية من الدستور فالقوانين الأساسية ثم التشريعات واللوائح والقرارات … ، وأن أصول اللغة العربية وقواعدها ومعطيات علومها هي الضابط الرئيس في فهم نصوص الدستور والقوانين، وهي وحدها تمثل سلطة الاختصاص المتفردة في عمليات التفسير والتحليل والتأويل القانوني …وجميع عمليات التعميم والتخصيص والتوسيع والتضييق… إلى غير ذلك من الأصول اللغوية والقانونية في الفهم والتفسير .
*وعليه منْ أراد تميُّزا في القانون وفرادةً في الفهم والتحليل والتفسير للنصوص والوقائع ومآلات النصوص والأحكام … فباب ذلك هو الامتهار بعلومِ اللغة العربية والتضلع بها …. ولا سبيل غير ذلك … رفعت الأقلامُ وأُوصِدَت الأبوابُ …!
الحقيقة الثانية: أن البناء اللغوي القوي والتمكن المهاري الذكي ، هو جزء من البناء القانوني ، وأن البناء القانوني الراسخ يقتضي بناء لغويا وتحصيلا حتميا لمعارف اللغة ومهاراتها، وخصوصا تلك التي تتعلق بعمليات صياغة القانون وتفسيره وتحليله وتطبيقه.
*فيا أيها المبتغي تميزا… ويا أيها المختطُّ مستقبلا قانونيا واعدا…ويا أيها الساعي لبناء قدراته ومهارته القانونية …
حيِّ على علوم اللغة …وأَقْبل على النّهل من مهاراتها والعللِ من معارفها … فذلك هو البناء القانوني الصحيح…!!!!
الحقيقة الثالثة: أنه يمكن اعتبار القاعدتين الدستورية والقانونية السابقتين ونواتجهما أساسا للــــــــــ”الأصالة القانونية ” ومعيارا لها، ومن ثم يمكننا القول بأن القانوني الأصيل هو ذلك المتمكن من علوم القانون وفنونه معرفة وممارسة، وعيا وتطبيقا … وهو ذلك المُحصِّل لما يلزمه من معارف اللغة العربية ومهاراتها وأدواتها لممارسة أعماله القانونية. ويمكن القياس على ذلك بقولنا :”بقدر قوتك القانونية مهاراتك اللغوية بقدر أصالتك”[1] مع عدم إغفال أهمية القيم والسلوكيات فهي عنصر رئيس من عناصر الأصالة القانونية كما سبق ذكره.
*وعليه –- فلا تشاغل نفسك كثيرا -أيها القانوني الطامح- ولا تمنيها أماني الحالمين بالتميز في القانون، وتبؤّ مكانة في عليائه … أو بسلوك دروب عظمائه … دون بناء لغوي وتمكن مهاري، فالقانون واللغة صنوان لا يفترقان إلا عند الغافلين الحالمين …!!!
الحقيقة الرابعة : أن العناية بأوعية القانون اللغوية وتمكين القانونيين من معارفها ومهاراتها يؤدي إلى تحقيق مقومين من مقومات الدولة الحديثة وهما المقوم القانوني والمقوم اللغوي، وكلاهما مما يدعمان دولة القانون والعدالة والهُوِيَّة العربية ، ومن ثم يتحقق الحفاظ على الهوية اللغوية وعلى الأمن واستباب العدالة .
كذلك يمكن لنا الاستنتاج ضمنيا ما يلي من ملحوظات:
1-أن الضعف اللغوي معرفيا ومهاريا هو سبب جوهري في نقصان البناء القانوني الصحيح للقانونين عموما وللمحامين خصوصا.
2-أن ضعف الوعاء القانوني (أي: القوالب التي تصاغ فيها القوانين– أو تكتب بها الأحكام وغيرها…) يسبب مشاكل حقيقية وغير قليلة إزاء طريق تحقيق غاية القانون في حماية الحق وفي إقامة العدالة الناجزة وتحقيق هدف الردع العام والخاص هلى ما سيأتي ذكره.
3- ضعف الصياغة القانونية يؤدي إلى إشكالات جوهرية ونزاعات متطاولة في التفسير والتأويل ما بين سلطات الاتهام والدفاع والحسم بما يؤثر على المتخاصمين وعلى الوضع القضائي برمته ، وبما يُشغل مؤسسات العدالة عما كان فيه غُنية لو كان المشرعون والقانونيون (وخاصة القضاة وـأعضاء النيابة والمحامين والخبراء … ) ذوي معارف وأولي مهارات وافية كافية بلغة القانون بداية من صياغة مواده وإصدارها ثم التحاكم إليها وما يقتضيه ذلك من حسن فهمها والوعي بمقاصدها ليتسنى لهم إسقاطها على الوقائع .. وكشف حيثياتها وتعليل مسبباتها …!!
وها هي ذي محاكمنا تعج بتنازعات وخصومات غير قليلة في الفهم والتفسير والتوجيه بما يؤدي للطعون على الأحكام أو بالطعون الدستورية على النصوص …مع ما يتبع ذلك من تأخير في الأحكام وتعطيل المحاكمات وبطء في تحقيق العدالة …بسبب دلالة كلمة أو مدلول نص، أو مؤدى تركيب معين صيغت منه مواد الحكم، أو بتأثير سياقٍ ما سابقًا كان أو لاحقًا مرتبطًا مباشرة أو غير مباشرة… وسيأتي الإشارة إلى مؤشرات تقريبية لدراسة علمية حول أثر الضعف اللغوي على الخصوم ودوره في تعويق غاية القانون وإنفاذ العدالة الناجزة.