لغة القانون والأمن القومي المصري
بقلم: د. محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
هل هناك علاقة بين لغة القانون وبين الأمن المجتمعي المصري؟
هل هناك علاقة بين لغة القانون وبين الأمن القومي المصري؟
الإجابة القاطعة هي نعم، ثم نعم، وألف نعم، هناك علاقة وطيدة ما بين لغة القانون وبين الأمن المجتمعي المصري، وما بين لغة القانون وبين الأمن القومي المصري.
وهي علاقة طردية، معادلتها تتناص في الآتي:
“كلما تعززت لغة القانون كلما قويت مقومات الأمن المجتمعي المصري “.
“وكلما تعززت لغة القانون كلما تماسكت مقومات الأمن القومي المصري”.
وبيان ذلك وتوضيحه في الآتي:
يمكن النظر لأهمية لغة القانون الأمنية على المستويين المجتمعي والقومي من خلال منظورين: أولهما: قانوني محض وهو ما تدل عليه النصوص والأحكام القانونية القاطعة، والثاني منظور واقعي ميداني، تدل عليه الشواهد والوقائع المتواترة والماثلة للكافة.
المنظور الأول : المنظور القانوني
من حيث نصوص القانون المتعلقة بلغة القانون وهي اللغة العربية وكونها مقوما اجتماعيا وقوميا فإنه يمكن الخلوص إلى أن توافر بلغة صريحة وضيحة لا شائبة فيها ولا غبار عليها يساعد على استقرار المجتمع ورسوخ أمنه واستتباب أمانه ، وهذا ما نصت عليه القوانين المصرية ابتداء من قمة الهرم القانوني المصري حيث الدستور إلى أواسطه وأدناه حيث القوانين العادية واللوائح والقرارات ، ولعل هذا ما دعا محكمة النقض لأن تكشف – فقط دون إنشاء – مفادات ودلالات هذه النصوص فيما خطته بقولها بعد إيراد نصوص الدستور وقانون السلطة القضائية المتعلقة بأهمية اللغة العربية بأن هذا التصريح التأسيسي من نص الدستور ومن نص قانون السلطة القضائية :” يدل على أن المشرع عًدَّ اللغةَ العربيةَ من السمات الجوهرية والمقومات الأساسية التي ينهض عليها نظام الدولة، مما يوجب على الجماعة بأسرها حكومة وشعبا بحسب الأصل الالتزام بها دون أيه لغة أخرى كوسيلة للخطاب والتعبير في جميع المعاملات وشتى المجالات على اختلافها” [الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158 ]
والأمر كذلك وبحق على ما ذكرت محكمة النقض ، إذ إن مفاد ما نص عليه الدستور 2014م مادة (2) :” الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية”. أن اللغة العربية لغة القانون هي شعار الدولة المصرية ووعاء نظامها القانوني العام ، وبقوتها تقوى الدولة المصرية القانونية ، وبعزة لغتها القانونية في التخاطب والتعبير والتأثير، تعز الدولة المصرية القانونية تلك القوة العربية والإقليمية ذات التاريخ العريق والهوية الأصيلة في محيطيها العربي والإسلامي، ثم في محيطيها الإفريقي والعالمي …. !!
وكذلك ما نصَّ عليها قانون السلطة القضائية المادة (19)من أن “لغة المحاكم هي اللغة العربية” يعني أن الضامن للنظام المجتمعي وما يتبعه من أمن وهدوء وسكينة هو رهن بتطبيق القانون وبسط عدالته على المجتمع بلغته العربية الواضحة وبنصوصه الصريحة وبكون لغته هي لغة التقاضي والتداعي والتحاكم والاحتكام في مؤسسات القانون وساحات العدالة .
فتلك غاية القانون إذ إنه قواعد عامة مجردة تنظم السلوك المجتمعي أو سلوك أفراد المجتمع وتحمي قيمه ومقوماته، ولأن هذا يتم من خلال مؤسسات العدالة وهي المحاكم ومتعلقاتها بلغة قانونية عربية صحيحة وفصيحة يعرفها العام والخاص ويعي دلالتها ويفهم مقتضياتها الكامنة في لغة القانون ولغة الحكم.
ومن ثم فالمواطن والمقيم يطمئن إليها ويؤمن بها في أي قالب كانت سواء كانت نصوصا قانونية أو أحكاما قضائية أو لوائح وقرارات أو لغة للتخاطب والتعاطي حول حقوقه وتداعيه في مؤسسات العدالة، فيأمن على نفسه وذويه وماله فتسكن نفسه وتقر عينه ويبقى ناعم البال مطمئن النفس.
ولو لا قدر الله وقع في نفسه شك من لغة القانون وأنها متلونة متعرجة تناله في مُصابه وعِقابه وتخطئه في صون ماله وحقوقه …لنفر عنها وأوجس خيفة منها … وتمرد على أحكامها ومرق عن مقتضياتها …ومن ثم خلع ربقتها واحتكم إلى غير مؤسساتها ، أو راح يقتضي حقه بيديه غير مبال ولا هيَّاب للقانون ولا لمؤسساته …ومن ثم تقع الواقعة …ويضطرب المجتمع ويموج بالفوضى … ويثور بعضه على بعض … حتى يرفضُّ نظامه … وتتناثر مكوناته إلى شتات وشتات ….!!!!
وعليه فإن جماع ما سبق ذكره عن دور اللغة القانونية في حفظ الأمنين المجتمعي والقومي أن لغة القانون العامة في خطابها والمجردة في تطبيقها والناصعة في بيانها والقريبة في دلالاتها …. ضامن للأمن المجتمعي بحماية المجتمع وقيمه ونُظُمه وحماية حقوق ومكتسبات أفراده …
كما أنها شعار وفخار الدولة القانونية المصرية في جميع المحافل الإقليمية والدولية … فهي دولة القانون المستقلة بدستورها والموحدة بأنظمتها والحرة العادلة في مؤسساتها القانونية ، والمتحضرة بقيمها وبعموم العدالة في ربوعها،
وعليه فإن لغة القانون بتعدد وجوهها من حيث كونها لغة الدستور ولغة التشريعات ولغة الحكم ولغة التنفيذ ولغة الدفاع … هي مُقَوِّم جوهري -اجتماعيا وحضاريا وقانونيا – من مُقَوِّمات الدولة المصرية وهي ضامن من ضمانات الأمن المجتمعي والأمن القومي المصري .
المنظور الثاني : المنظور الواقعي
بناء على ما سبق ذكره في المنظور القانوني، وأن لغة القانون بمعانيها ودلالاتها وموضوعاتها وبما حوته من قواعد وقيم عامة مجردة في حماية النظام الاجتماعي وحماية حقوق وحريات أفراد المجتمع والتوحيد بينهم في تلك الحقوق والواجبات هي ضمان لأمن المجتمعي وأفراده.
فدلالاتها الصريحة وتراكيبها الفصيحة وعباراتها الوضيحة هي ما يركن لها أفراد المجتمع وما تسكن به مفازعهم وكذلك هي شعار الدولة ودثارها، ولغة نظامها القانوني، ولغة هويتها التاريخية وكيانها الحضاري وبعزتها وقوتها تعز وتقوى الدولة المصرية على كافة المستويات .
******
وعلى الجانب الآخر … وهو جانب مخيف ومفزع …ينبغي التحسب له والعمل على الوقاية منه ، لحماية أمننا المجتمعي وأمننا القومي ، وبيان ذلك في الآتي:
هناك معادلة مكافئة للمعادلة الأولى عالية ، وهي تجيب عن سؤالين رئيسين:
السؤال الأول: هل سقوط لغة القانون يعني سقوطها من عين أفراد المجتمع ؟ وهل يعني ذلك سقوط للنظام الاجتماعي
والسؤال الثاني: هل ضعف وسقوط لغة القانون يعني ضعف أو احتمال سقوط الأمن القومي المصري ؟
والإجابة هي: نعم ثم نعم …!!!!
ضعف لغة القانون وسقوطها وإهمالها يؤدي إلى تقويض النظام الاجتماعي كافة بل ويمتد إلى كوارث تؤثر على الأمن القومي المصري وتهدده في صميمه.
وبرهان ذلك في الآتي:
1-بسقوط لغة القانون …. يتعطل هذا المرفق الحيوي ( مرفق القانون والعدالة )
وتعجز العدالة عن الوفاء بمقتضياتها … فلا تغدوا عدالة ناجزة ولا شفافة…!!
إذا إن الالتباس في صياغة النصوص وفي فهمها وفي صياغة الأحكام المبنية عليها …يؤدي إلى صراعات وعراكات ظاهرة حينا ومكتومة أحيانا كثيرة بين أطراف العدالة وسلطاتها …. فتسقط هيبة القانون ويحل البطء عليها والعدالة البطيئة ظلم، والعدالة الناجزة عدل ….!!!
2-ومن مخاطر ضعف لغة القانون على المجتمع
أن سقوط لغة القضاء ولغة الحكم – وهي من جملة لغة القانون – يؤدي إلى زعزعة الأمن المجتمعي
وقد ظهرت بوادر كثيرة عنه …هو أن ضعف البعض من سدنة العدالة وحراسها والقائمون عليها وخاصة السادة القضاة الأجلاء الذين لهم كلُّ التقدير والإكبار … عند ضعف البعض منهم في لغة القانون وخاصة في لغة النطق بالحكم ومشمولاته …. فهذا الضعف حتما سيُسقِط هيبة العدالة في نفوس من قَضى الحكم لغير صالحهم ….إذ إن ضعف لغة القضاء في التعبير عن الحكم وهلهلة لغة الحكم يريب نفوس المتقاضين وينزع الهيبة من نفوسهم فيتجرءون على نقد الأحكام القضائية الأولية منها والنهائية بل والطعن في مُصدرِيها …!!
ومن ثم فقد يلجأ كثير منهم إلى اقتضاء ما يزعم أنه حقه بيده …وهنا تقع الواقعة وتعم الفوضى وتتقوض أواصر المجتمع القانونية ……..!!!!! حفظ الله الوطن من كل مكروه وسوء .
3-أخطر ما في الأمر أن:
سقوط لغة القانون يهدد الأمن القومي أجمع ويشوه صورة الدولة القانونية ويدعو لتقويض نظامها القانوني حيث إن سقوط لغة القانون يغري المتشككين والكارهين للوطن والمتربصين به في الداخل والخارج إلى الطعن في النظام القانوني العام للدولة ، ويحمله على أن يرجف بذلك ويشيع بالطعن فيه على المستوى الدولي … معززا نيته الحاقدة ومبررا لنظريته الفاسدة بأن مصر ليست بدولة قانون وأن قضاتها ليسوا بأهل للقانون …!!! ، بأنها دولة ظلم واستبداد …!!!!!! ( حفظ الله مصر ونظامها القانوني ومقوماتها السياسية والاجتماعية وركائزها من كل مكروه وسوء ).
وأخطر من ذلك ما يترتب على ما سبق من تناول بعض الأطراف الكارهة أو بعض الأبواق المبغضة المعادية لأمن الوطن ونظامه السياسي والقضائي … واتخاذ ضعف لغة القضاء والحكم مدخلا للتشكيك والإرجاف والحط من قداسة العدالة ومكانتها الراسخة في مصر.
وهو ما قد يسبب اضطرابا كثيرا ولغط أكثر بين بعض المتذبذبين والجاهلين من الجماهير الجاهلة أو غير القويمة أو المتشككة فينحرفوا عن السوية الوطنية وينقلبوا إلى خنجر مسموم في خاصرة الوطن يعربدون هنا وهناك ويؤلبون على الدولة المصرية في المحافل والمجاميع الإقليمية والدولية .
4- ولأن قطاع العدالة يخص جميع أفراد الشعب ، فما من أحد إلا ولدية حق يريد أن يحميه أو مركز قانوني يريد تكشيفه أو إنشاءه …. فجميع الأفراد معرضون للتريُّب والتشكك حال لا قدر الله سقطت لغة القانون عند حماتها وذويها من أعضاء السلطة القضائية ومن المحامين ومن المشرعين ومن البرلمانيين ومن المتحدثين باسم الدولة على كافة المستويات وفي كافة القطاعات.
5-ضعف المتحدثين باسم مصر في المحافل الدولية أو الإقليمية يثير كثيرا من التشككات حول أهليتهم وحول مضامين كلامهم بما يستفز الغيورين على الوطن بالنقد ، وبما يستثير الحاقدين والمتريبين والمتربصين بالوطن إلى الطعن في النظام القانوني الوطني عموما …فيذهب إلى الإرجاف والتشنيع أو إلى تحريف الكلام الرسمي الصادر باسم الدولة عن مواضعه ليفتري الكذب ويزرع الفتنة …….!!!!
وكلها من مهددات الأمن القومي ، وما ذلك إلا بسبب ضعف وسقوط لغة القانون ، أو بسبب ضعف أو عدم تمكن القائمين عليها من المتحدثين الرسميين باسم الدولة ….!!!!
فهل يعقل أن يكون خطابهم القانوني باسم الدولة ضعيفا مهلهلا …؟؟؟!!
بينما خطابهم باللغات غير العربية فصيحا لسنا طلقا ذلقا ؟؟؟!!!
أليست اللغة العربية مقوما من مقومات الدولة المصرية وشعارا لها ووعاء لتاريخها ونظامها القانوني ؟؟؟!!!
حلول ما سبق من خطر يتهدد أمننا القومي والاجتماعي:
يمكن هنا ذكر بعض الحلول لما سبق ذكره من مخاطر في الآتي حيث الأمر جد بسيط وهي حلول أولية بلا مصروفات عالية أو تجنيد قوات وبلا حروب باردة أو ساخنة ….يكمن الحل في:
أ-حماية أمننا القومي وفي قطع ألسنة المرجفين والكارهين للوطن … بتعزيز لغة القانونيين وعلى رأسهم السادة القضاة وخاصة قضاة الحكم ، والمتحدثين الرسميين للدولة ثم السادة القانونيين جميعا … ووضع برامج تقوية خاصة لهم لتحصيل كفايات لغة القانون معرفة ومهارة وتطبيقا وسلوكا، وقد ذكرنا هذه البرامج تفصيلا في سلسلة حلقات باسم التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين – وهي ثماني حلقات متتالية تم نشرها على موقع النقابة العامة للمحامين وتم تقديم مخطط كامل بالمشروع مع دراسة وافية له للسيد النقيب العام ولا زلنا ننتظر رده-…. فلا يخفى ما بين حبكة لغة القوانين وسبكها وصحة ودقة النطق بها وما بين رسوخ العدل وحلول الطمأنينة في الأحكام حتى بين من كان الحكم لغير صالحه …..
ب-الإشادة الإعلامية باللغة القانونية ومهاراتها ومعارفها لدى السادة القضاة وغيرهم من المسئولين واستضافة بعض المفوهين منهم للحديث عنها ومدى تضطلع مؤسسة القضاء بها …. لرد الاعتبار … وتعزيز ثقة الجمهور في وفور علم السلطة القضائية ووفور العلم يقتضي وفور العدالة وقيام الأحكام على العلم والمعرفة والحق وبهذا يتحقق العدل وينسط الأمن في ربوع الوطن وفي نفوس وقلوب أفراد المجتمع.
ومن ثمَّ تأتي فكرة اتحاد لغة القانون الذي أشرنا إليه في المقال الأول هذا الاتحاد أو ذلك المنتدى أو تلك الرابطة ” لا مشاحة في التسمية ” استجابة للمقتضيات السابقة ولمواجهة التحديات ولتحقيق الطموحات المنشودة فيما يتعلق بلغة القانون ، فمن أهداف هذا الاتحاد ” اتحاد لغة القانون ” ما يلي :
الهدف الأول : الاستجابة لنص الدستور ونصوص القانون في الحفاظ على لغة القانون كإحدى “مقومات الدولة القانونية”
الهدف الثاني: تعزيز لغة القانون والقيام عليها ، ونشر ثقافتها ومعارفها وتوفير مصادرها وأوعيتها المعرفية
الهدف الثالث: التصدي لظاهرة تدني المستوى اللغوي القانوني وما يتبع ذلك من ظواهر لا تليق ( أخطأ صياغة – أخطاء في الحديث) إثارة التعليقات الساخرة ، تدني النظرة الاجتماعية …!!!! بما يضعف من الثقة في مؤسسة العدالة ، وبما يجرئ المرجفين المتربصين بالوطن على تقويض استقراره ومقوماته .
الهدف الرابع: حماية لغة القانون ودعمها في مواجهة التحديات والعوائق التي نحول دون تنميتها وتطورها والإقبال عليها من قبل جموع القانونيين المعنيين بتحقيق العدالة وتطبيقها وبسطها، ولدى سائر القانونيين العاملين في المجال القانوني والمعنيين يه في عموم مؤسسات القانون والعدلة في الوطن، وفي هذا السبيل يمكن تأسيس وحدة تتبع الاتحاد وحدة لغوية قانونية تربوية (يجمع ما بين القانونيين المهتمين باللغة وما بين اللغويين المتخصصين والتربويين) لمناقشة لغة القانون وتحدياتها.