
لغة الدفاع الجنائي
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
هل يمكن أن تتحول كلمة المحامي داخل قاعة المحكمة من أداة دفاع إلى محل اتهام؟! وهل يجوز أن تنقلب عبارات المرافعة، التي يُفترض أن تكون من صميم ضمانات المحاكمة الجنائية العادلة، إلى سبب للمساءلة الجنائية أو التأديبية؟ وأين يقف الحد الفاصل بين الدفاع القوي المشروع، وبين التجاوز غير المقبول في الألفاظ؟ وهل تختلف الإجابة حين تكون القضية محل اهتمام الرأي العام، وتحت ضغط المتابعة الإعلامية، بما يفرض على الكلمة القانونية حملاً يتجاوز معناها الحقيقي؟ هذه التساؤلات فرضها الواقع العملي مؤخرًا، على خلفية ما أثير من توجيه اتهام من النيابة العامة إلى محامٍ شهير، رأت فيه أن عبارات صدرت عنه أثناء ممارسته حق الدفاع قد جاوزت حدوده، وخرجت عن مقتضى اللياقة الواجبة في مخاطبة سلطة الاتهام. واقعة أعادت إلى الواجهة إشكالية دقيقة تتعلق بلغة الخصومة الجنائية وحدودها، وبالمسؤولية التي تتحملها الكلمة حين تصدر في سياق نزاع يمس الحرية والعدالة معًا.
المحاكمة الجنائية العادلة لا تقوم إلا على تمكين حقيقي وفعلي لحق الدفاع، لا بوصفه إجراءً شكليًا، بل باعتباره ضمانة جوهرية تمس جوهر الحرية الإنسانية. فهذا الحق يقتضي أن يُمنح الخصم المحامي المجال الكامل ليبدي ما يشاء في مواجهة الخصم الآخر، وأن يناقش أدلة الاتهام، ويطعن في إجراءاته، ويصف ما يراه من قصور أو تعسف أو خطأ في التكييف القانوني، دون خوف أو تهيّب.
فالدفاع ليس مجاملة لغوية، ولا خطابًا مهذبًا بالضرورة، بل هو مواجهة قانونية حقيقية، قد تقتضي في كثير من الأحيان لغة حادة ونبرة قوية، ما دامت منضبطة في مقصدها ومتصلة بموضوع الدعوى اتصالًا مباشرًا.
غير أن هذا الحق، على سعته وأهميته، ليس مطلقًا. فكما أن الدفاع حق أصيل، فإن اللياقة في الألفاظ تمثل قيدًا جوهريًا على ممارسته، لا باعتبارها قيدًا على الحرية، بل باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من عدالة المحاكمة ذاتها. فالفرق دقيق، لكنه حاسم، بين النقد القانوني المشروع الذي ينصب على الإجراء أو الدليل أو الاستنتاج، وبين الانزلاق إلى عبارات تمس الاعتبار الشخصي أو المؤسسي، أو تحمل إيحاءات لا تضيف إلى الدفاع قيمة قانونية، ولا تخدم غايته في إقناع المحكمة.
ويظل الحديث عن (لغة الدفاع الجنائي) منقوصًا إذا لم يُقابل بحديث واضح وصريح عن دور النيابة العامة في الخصومة الجنائية، بوصفها ليست خصمًا عاديًا، ولا طرفًا يسعى إلى الغلبة، وإنما “نائبة عن المجتمع” بأسره، ومؤتمنة على تحقيق العدالة قبل تحقيق الإدانة.
فالنيابة العامة، في فلسفة العدالة الجنائية، لا تُختزل وظيفتها في توجيه الاتهام، بل تمتد رسالتها إلى البحث عن الحقيقة كاملة، فتبحث في البراءة بذات الجدية التي تبحث بها في الإدانة، وتعرض ما في صالح المتهم كما تعرض ما تراه ضده، التزامًا منها بمبدأ الموضوعية الذي يميزها عن سائر الخصوم. وإذا كان الدفاع يُمنح حقه الكامل في المناقشة والطعن والتفنيد، فإن ذلك يقابله واجب أصيل على النيابة العامة في أن تظل وفيّة لدورها كحارسة للشرعية، لا كمجرد سلطة اتهام.
فإذا انحرفت عن هذا الدور، وتحوّل الاتهام إلى غاية في ذاته، وغاب السعي الصادق إلى الحقيقة، فإن النيابة -في هذه الحالة- لا تخل فقط بواجبها القانوني، بل تُجازف بأن تنقلب، بغير قصد، “خنجرًا في قلب العدالة” التي أُنشئت لحمايتها.
ومن هذا المنطلق، فإن النقد القانوني الذي يوجّهه الدفاع إلى أداء النيابة العامة، متى انصب على تقديرها للأدلة أو منهجها في الاستدلال أو التزامها بالضمانات، لا يُعد مساسًا بهيبتها، بل يُسهم في تصويب المسار الجنائي ذاته.
فعدالة الخصومة لا تتحقق بتكميم الدفاع، ولا بتحصين الاتهام من المساءلة القانونية، وإنما تتحقق حين يؤدي كل طرف وظيفته في إطارها الصحيح: دفاعٌ قوي ومسؤول، واتهامٌ موضوعي ومنصف، وقضاءٌ يزن الجميع بميزان واحد.
وتتضاعف حساسية هذه الإشكالية في القضايا التي تحظى بمتابعة الرأي العام، حيث تنتقل العبارات القانونية من سياقها القضائي الدقيق إلى فضاء إعلامي واسع، تُجتزأ فيه الكلمات وتُحمّل بدلالات قد لا تحتملها. وهنا تتعاظم مسؤولية جميع أطراف الخصومة في الحفاظ على رصانة الخطاب، لا حمايةً لمراكزهم الوظيفية، بل صونًا لثقة المجتمع في العدالة نفسها.
وهكذا، نعود إلى التساؤلات الأولى وقد اتضحت معالم الإجابة: للمحامي الحق الكامل في الدفاع، بل في الدفاع القوي والحاد، متى ظل منضبطًا في ألفاظه، مرتبطًا بموضوعه، خادمًا لغاية العدالة. وللنيابة العامة الحق في الدفاع عن هيبتها، دون أن يتحول ذلك إلى قيد على النقد القانوني المشروع. وبين هذا وذاك، تظل الكلمة القانونية ميزانًا دقيقًا، إن أُحسن استخدامه كان أداة للوصول إلى الحقيقة، وإن أسيء توظيفه تحول إلى عبء على الخصومة وعلى العدالة ذاتها.
(فالعدالة الجنائية لا تُبنى بالصمت، ولا تُصان بالإساءة، وإنما تقوم على كلمة حرة في مقصدها، منضبطة في عبارتها، صادقة في وظيفتها. وحين تستقيم هذه المعادلة، تبقى المحاكمة الجنائية ساحة للحجة والعقل، لا ميدانًا للمساءلة عن النوايا أو تصفية الحسابات، وتظل العدالة محتفظة بوقارها، وإنسانيتها، ومصداقيتها أمام المجتمع).