لا طبقات في الإسلام

لا طبقات في الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 21/1/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

تحت عنوان الطبقات، أورد الأستاذ العقاد أن القرآن أقر سنة التفاوت بين الناس باعتباره حقيقة واقعة، فهم يتفاوتون ـ مثلا ـ في العلم والفضيلة..

«هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ» (الزمر 9).

«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» (المجادلة 11).

وعندي شخصيًا أن التعبير القرآني في الآية الثانية، يفصح عن مبدأ بدا واضحًا لي من طول البحث والنظر والتأمل، أن القرآن لم يقر قط تقسيم الناس إلى «طبقات»، وحرص على استخدام تعبير «درجات»، وعلى كثرة ما جرت به النصوص القرآنية والنبوية، لم تستخدم قط تعبير «الطبقات».. فلا محل للطبقات في الإسلام..

ويقفي الأستاذ العقاد بأن الناس متفاوتون أيضًا في الجهاد الروحي وفي القدرة على الإصلاح.

«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» (البقرة 253).

«لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً» (النساء 95).

وهم متفاوتون في الرزق وأسباب المعيشة..

«نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» (الزخرف 32).

«وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ» (النحل 71).

«وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ» (النساء 32).

وترى ـ مصداقًا لما ذكرته ـ أن الآيات استخدمت ثلاث مرات تعبير «الدرجة» و«الدرجات»، ولم تستخدم تعبير «الطبقات ».

بيد أن هذا التفاوت بحكم الواقع، الذي يشير إليه القرآن لا يرجع فيما ينوه الأستاذ العقاد إلى عصبية في الجنس أو الأسرة، أو اللون، أو الأمة والقبيلة والأسرة.. ولا بين أحدٍ وآخر إلاَّ برعاية الحقوق والواجبات.

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (الحجرات 10).

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13).

فالتعدد في الأمم وسيلة للتعارف والتعاون، لا للتعادي والتدابر والتنابذ.. ولا محل فيما بينهم للتفرقة أو التعصب للأجناس والعصبيات، وهو ما جرى به الحديث النبوي: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لقرشي على حبشي إلاَّ بالتقوى».

وكان عمر رضى الله عنه يتكلم عن الصديق أبى بكر وعتقه لبلال الحبشي فيقول: «هو سيدنا وأعتق سيدنا».

*     *     *

فالقرآن الكريم ـ بهذه الأحكام الدقيقة المفصلة ـ قد أعطى المساواة حقها، وأعطى التفاوت بين الآحاد والدرجات (لا الطبقات) حقه.. فلا يمتنع التفاوت فهذا حكم الواقع، وليس سببًا بذاته للظلم أو الجور أو الإجحاف بالحقوق، بل هو يستوجب أن يعطى كل ذي حق حقه.. ولو كان من المستضعفين.. ويتآخى الجميع في إطار المساواة، وأنهم جميعًا إخوة..

وبهذا التعامل الحكيم مع الواقع، وتفريد القواعد التي تحكمه، أقر القرآن أصلح النظم التي تستقيم بها حياة الفرد والجماعة.

فالحقيقة الماثلة أمامنا أن التنوع سنة الحياة وغايتها، وأنها تنزع إلى تفاوت المزايا، لا إلى التشابه والتماثل، وحكمة التفاوت ظاهرة، مثلما أن آفة التماثل أو التشابه ظاهرة أيضًا، لأنه بذلك تتدافع الحياة التي لا تمضي حركتها على وتيرة واحدة أو نسخة واحدة..

ولا معنى للتفاوت إذا تساوى القادر والعاجز، أو العامل والقاعد الكسلان، فللقدرة تكاليفها وأعباؤها ومطالبها.

فالتفاوت موجود

والتفاوت لازم

ولكنه لا لزوم له إلاَّ بما يقترن به من رجاء وإشفاق قوامهما تحمل أعباء وتكاليف القدرة.

وهذه هي شريعة الحياة.

والناس لا يمكن إلاَّ أن تتفاوت في المواهب الطبيعية، والقدرات المكتسبة.. ومدابرة الطبيعة شر على الأمة من الطغيان والاستبداد..

بيد أن القرآن لم يقر حقائق الواقع وسنن الحياة وكفي، وإنما أعطى للمساواة حقها.. فليس لأحدٍ أن يجور على أحد، ولا لفئة أن تجور على فئة، ولا لجماعة أن تجور على

غيرها..

ولست أخفي أن الأستاذ العقاد استخدم تعبير «الطبقة» و«الطبقات»، وهو وإن كان قد أفصح عن أنه لا يجوز لطبقة أن تجور على طبقة غيرها، إلاَّ أن اعتقادي أن تعبير «الدرجة» و«الدرجات» هو الذي يعبر عن فلسفة القرآن التي لم تقر تعبير «الطبقات» وإنما استخدمت تعبير «الدرجات»، وهي على كل حال أوجبت على جميع المنتمين إلى هذه أو تلك من الواجبات بمقدار ما لهم من الحقوق، وقررت أنهم سواء بلا تفرقة لجنس أو لون أو مكانة أو أحساب…

وتلك هي شريعة القرآن..

«وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» (لا طبقات).. (الأنعام 165)

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات 13).

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (الحجرات 10).

وعلى هذا تصلح الحياة، ويستقيم العدل، على سنن التفاوت والمساواة.

المرأة في القرآن

يستهل الأستاذ العقاد حديثه باستعراض هذه الآيات:

«وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» (البقرة 228)

«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ» (النساء 34)

«لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ» (النساء 11)

«إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» (يوسف 28)

«وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ» (يوسف 33)

وإذ بدأ الأستاذ العقاد في هذا المبحث بهذه الآيات القرآنية، فإنه يستلخص أن ميزان العدل الصحيح هو التسوية بين حقوق المرء وواجباته..

وليس من العدل التسوية بين المختلفين في الحقوق والواجبات..

والتسوية بين الحقوق والواجبات، وهي العدل الذي فرضته الفلسفة القرآنية للمرأة، وهو بذلك قد وضعها في موضعها الصحيح من الطبيعة ومن المجتمع، ومن الحياة الفردية.

ومن اللجاجة ـ فيما ينوه ـ أن يقال إن الرجل والمرأة سواء في جميع الحقوق، وجميع الواجبات.. فلا معنى لذلك مع اختلاف النوع واختلاف الخلقة واختلاف الواجبات.

والطبيعة لا تنشئ جنسين مختلفين، لتكون لهما صفات الجنس الواحد ومؤهلاته وأعماله وغاياته..

وحكم التاريخ يغنى عن الاستشهاد..

ولا تقوم هذه الحقيقة على جهالة، أو استبداد، أو مغالبة، أو مجاراة، وإنما على واقع فوارق تنطق بها الحياة قبل ما يثبته العلم والعلماء..

ولكن إقرار ذلك لا يستهدف تمييزًا ولا انتصارًا لجنس على آخر، فالقرآن الحكيم له في ذلك فلسفة هي غاية في الرشاد والعدل والإنصاف.

القوامة

أقام القرآن الفارق بين الجنسين على الأساسين اللذين يقيمانه، ويقيمان كل فارق عادل

من نوعه، وهما فيما يورد الأستاذ العقاد: أساس الاستعداد الطبيعي، وأساس التكاليف الاجتماعية.

ويؤثر الأستاذ العقاد أن يبدأ بمواجهة القضية من منبتها، أن هناك بالفعل قوامة للرجال على النساء، ولكن ما هو أساسها؟

«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ» (النساء 34).

فالقوامة إذن مستمدة من التفوق الطبيعي في الاستعداد، ومستمدة أيضًا من نهوض الرجل بأعباء المجتمع، وتكاليف الحياة..

فهو أقدر على كفاح الحياة، حتى ولو كانت المرأة مثله في القدرة العقلية والجسدية، لأنه منصرف إلى ذلك، بينما هي منصرفة عنه قسرًا في فترة الحمل والرضاعة، فضلاً عن شئون البيت إن لم يكن هناك حمل ولا رضاعة.

والرجل هو الكفيل المسئول عن تدبير المعاش، وتوفير أسباب الأمن والطمأنينة التي لا غناء عنهما للأسرة لتواصل الحياة.

وكلاهما فيما يرى، فارق ضروري.. تقضى به وظائف الجنسين..

وإحالة الأستاذ العقاد إلى ما تقضى به “وظائف الجنسين “إحالة مقصودة لبيان الأصل، حالة كون أمور الواقع قد لا تكون على هذه القسمة في بعض الحالات، ولكن القواعد توضع للأصل العام، لا للأحوال الاستثنائية!

*      *      *

ولذلك يرى الأستاذ العقاد أن المجتمع الذي يتزاحم فيه النساء والرجال على عمل واحد في المصانع والأسواق ـ لن يكون مجتمعًا صالحًا مستقيمًا على سواء الفطرة، مستجمعًا لأسباب الرضا والاستقرار بين بناته وبنيه، بل به يختل نظام العمل والسوق، كما يختل نظام الأسرة والبيت.

والأستاذ العقاد لا يلجأ هنا للتجميل أو التبرير، فهو يستقطر الفلسفة القرآنية، ويستهدف أن يكون صادقًا مع نفسه ومع استخلاصه لها..

زر الذهاب إلى الأعلى