لا رق ولا عبودية في الإسلام

من تراب الطريق (1128)

لا رق ولا عبودية في الإسلام

نشر بجريدة المال الأحد 27/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لم أعاصر، ولكنى أستطيع أن أتصور أن من اعترضوا من سنين بعيدة على إلغاء الرق والعبودية، قد احتجوا ــ آنذاك ــ بأن امتلاك الإماء وارد بالقرآن الكريم، وأن ما ملكت الإيمان غير محرم فيه، وقولهم وتجاهلهم عمدًا أو عن جهل، أن موقف القرآن لم يكن انتصارًا للرق، وإنما سياسة في علاجه حتى ينقضي أمره، فقد كان عند المبعث ــ نظامًا عالميًا واقتصاديًا يسود العالم، فاضطر لعلاجه بالتدريج حتى لا يُهجر الدين في بدايته، واثقًا من أنه حين يتآكل بالسياسة التي خطها، لن يقلق المتدينين، وأنه من المؤكد لهم ــ ولغيرهم ــ أن انتهاءه ليس ضد الدين، وأنه لم يكن موجودًا بأمر الدين أو بإقراره.

وتستطيع أن ترى سياسة الإسلام في تجفيف الرق؛ واضحة أمامك في موقفه العام والإنساني من الأرقاء والعبيد، وكيف أن بلالاً دخله حرًّا بعد أن أعتقه أبو بكر لحظة شرائه من أمية بن خلف لينقذه من العذاب، وكان سلمان الفارسي حرًّا فيه، وكذلك صهيب الرومي وغيرهم. وتستطيع أن ترى سياسة الإسلام في مقاومة الرق بما استنه من وقف قتل أو استعباد الأسرى، وكيف صار المعتوقين فيه ذوي كرامة لم ينكرها عليهم المسلمون. فما من أحد أنكر ولاية سلمان الفارسي على المدائن وغيرها، وما من أحد أنكر مكانة بلال وسط كبار الصحابة والمهاجرين، ورأى المسلمون كيف كان الرحمة المهداة ــ عليه الصلاة والسلام ـ يطلق أسير الحرب إذا ما عَلَّم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وأنه قبل فيهم الفداء، وقَدَّم الَمَنَّ على الفداء عملاً بحكم القرآن الكريم: « فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا » (محمد 4)، وكيف رأى المسلمون ولا يزالون حتى اليوم ــ مبادئ المساواة التي تعلو « السياسة » في الإسلام.

طفق المسلمون وما زالوا يقرآون قوله سبحانه وتعالى: « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » (الحجرات 10) ويقرأون قوله عز وجل: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ (كل الناس) إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » (الحجرات 13).

مقررًا أن الفضل والأكرمية للتقوى، وليس للعرق أو الوجاهة أو الامتلاك أو المال أو القوة أو السلطان، وأن ما في الإسلام من مبادئ تعلو السياسات (المؤقتة والمتغيرة): مبدأ المساواة، فهو دين المساواة، وليس دين الاستعباد أو الاسترقاق. أما التفاوت في الكفاءة أو في العلم أو العمل أو في المجاهدة، فلا يدخل تقديره في باب اللامساواة، وإنما في باب المساواة بقدرها الذي لا يهمل اجتهاد المجتهدين والنابهين، فلهم « الدرجات » وليس الطبقات..

فالدرجة ــ لا الطبقة ــ هي جزاء المؤمنين وأسبقيتهم على غيرهم، وجزاء أولى العلم على من لا علم لهم، وللمجاهد على القاعد درجة، ومن ارتفعوا بهذا أو ذلك من الكفاءات، إنما ارتفعوا درجة أو درجات، لا طبقة ولا طبقات. فلا طبقات في الإسلام، وهذا معلم أساسي من معالم مبدأ المساواة فيه، فالكل أخوة، ولا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أسود أو أحمر، إلاَّ بالتقوى. وتتابع الآيات القرآنية التي ترسخ لهذا المفهوم الذي به سما مبدأ المساواة.. « يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا » (النساء 1)، « وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ » (الأنعام 98)، « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » (الأعراف 189). هذا التنبيه متكرر في القرآن إلى أصل الإنسان الواحد.

في السنة النبوية يقول عليه الصلاة والسلام: كلكم لآدم من تراب.

وذات هذه المساواة، والإحساس العميق بها، والذي يتزايد مع نمو الأخلاق وتطور الثقافة واتساع رؤيتها. هذه المساواة كانت أساس تجفيف الرق وما ملكت الإيمان حتى انقطعًا تمامًا، وتقبل المؤمنون انقطاعها بلا مناهضة إقرارًا بأن ما تفرضه حق، لا يتنافى ولا يتعارض مع الدين، بل إن الإسلام ذاته هو الذي أعلى مبدأ المساواة، وسد منافذ الرق، وفتح أبواب العتق، فجعله ثوابًا، وكفارة أيضًا للذنوب.. ككفارة الظهار واللعان، وكفارة الحنث في الإيمان والنذور، وكفارة القتل الخطأ. وأعملت هذه السياسة أثرها، مع أثر تقدم المدنية والحضارة، فاختفي الرق وما ملكت الإيمان دون أن بأسى أحد من المسلمين على اختفائهما، أو يدعي متقول إن ذلك ضد الإسلام. الإسلام لا يقر الرق ولا يقر العبودية، بل هو عنوان المساواة والإنسانية.

زر الذهاب إلى الأعلى