لا أصل للخلافة في الإسلام ! (3)
من تراب الطريق (945)
لا أصل للخلافة في الإسلام ! (3)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 29/9/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أعود فأقول بغض النظر عن هذه الاستطرادة، أنه من المؤكد المقطوع به أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمر ولم يوص بخلافة في شئون الدنيا، ولم يأمر أو يوص بخلافة أحد بعينه ليقوم على أمر المجتمع الإسلامي في شئون الدنيا، أما النبوة فلا مجال بداهةً وأصلاً للخلافة فيها .
ولو كان -عليه الصلاة والسلام قد أوصى لأحد، ما أباح الأنصار لأنفسهم أن يرشحوا أحدهم لولاية الأمر يوم سقيفة بنى ساعدة، ولو كان عليه الصلاة والسلام قد أوصى لأحد بعينه، لما جرؤ الفاروق على أن يقول لأبي عبيدة بن الجراح في ذلك اليوم: «امدد يدك أبايعك»، ولو كان قد أوصى لكان رد أبى عبيدة خلاف الرد الذى رد به، ولصرَّح في وضوح وجلاء بمن أوصى النبي أن تكون له إدارة المجتمع في شئون الدنيا، ولو كان عليه السلام قد أوصى، لالتزم أبو بكر الصديق بوصيته لحظة أن لحق بالسقيفة، ولاستند إلى من أوصى الرسول إليه بولاية أمر الدنيا، ولما كان قد بدأ بترشيح أىًّ من الرجلين: عمر وأبى عبيدة !
ولم يتحدث الصديق يوم بويع، ولا بعده، بأنه يتوسد حكم أو إدارة المجتمع، بأمر أو بتوصية من الرسول عليه الصلاة والسلام، بل كان يقول ـ ومثله الفاروق من بعده ـ إنه قد تولى أمر المسلمين وليس بخيرهم، فإن وجدوا فيه استقامة أعانوه، وإذا انحرف عن الجادة ردّوه وقوموه .
وآيات القرآن، والسنة النبوية، شاهدان على الحقيقة التي أبديناها من قبل استخلاصها من السيرة .
وبرغم الوحى ورسالة النبوة والهداية، فإن إدارة الرسول عليه الصلاة والسلام للمجتمع الإسلامي بالمدينة، لم تكن إدارة ثيوقراطية تنسب نفسها إلى إرادة الله عز وجل، بل كان عليه الصلاة والسلام يقول للمسلمين في أكثر من مناسبة: «أنتم أعلم بشئون دنيا».
وسكوت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الاستخلاف لم يخالف أصلاً من أصول الإسلام
من المؤكد أن القرآن الحكيم قدم مبادئ للحكم، يصح بها الحكم، ويصح بها كل مجتمع موكل الأمر فيه إلى من يرعاه ويقوم على إدارة شئونه .
ولكن يبقى السؤال، هل حدد القرآن شكلاً معينًا بذاته لنظام الحكم، لا يكون الحكم إلاَّ به وعلى أساسه ، أم أنه أورد المبادئ الحاكمة ، تاركًا شكل الحكومة ونظامها إلى واقع الحياة الذى يتغير بتغير الظروف واعتبارات الزمان والمكان .
أورد القرآن الحكيم آيات واضحة الدلالة حددت مبادئ يلتزمها الحكم أيًّا كان نظامه ، ويلتزمها كل راعٍ أو مسئول فى الإطار الذى يتولاه أو ينهض عليه أو يقوم فيه بدور .
يقول الحكم العدل عز وجل :
« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » ( الشورى 38 )
« وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ » ( آل عمران 159 )
« وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » ( الشعراء 215 )
« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » ( الحجرات 10 )
« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ » ( الكهف 110 )
« يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ » ( آل عمران 64 )
« وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ » ( ق 45 )
« فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ » ( الغاشية 21 ، 22 )
« وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » ( النساء 58 )
ومن هذه الآيات ما يصف المؤمنين أو يخاطبهم عامة، ومنها ما يتجه بخطابه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام آمرًا أو موجهًا أو موصيًا .
فمن صفات المؤمنين المستقاة من الآيات، أنهم إخوة، وأن أمرهم شورى بينهم ، وأن العدل هو أساس الحكم فيما بينهم ، وأن المجتمع الإسلامي يتسع لأهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة سواء بينهم وبين المسلمين ألاَّ يعبدوا جميعًا إلاَّ الله ، وألاَّ يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله …
والرسول عليه الصلاة والسلام، مأمور من ربه سبحانه وتعالى أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين ، وأن يشاورهم في الأمر ، وخطابه لهم قوامه أنه بشر مثلهم يوحى إليه، وأن إلهه وإله الجميع واحد، وما هو عليهم بجبار، وليس عليهم بمسيطر، وإنما خطابه إليهم بالحكمة والموعظة الحسنة .
ومن المؤكد أن القرآن الكريم تضمن مبادئ يجب الالتزام بها في الحكم، وإن كان لم يقدم تصورًا تامًا أو صورة شاملة للحكومة، فالشورى أو المشاورة مبدأ، وعدم الاستبداد أو التجبر مبدأ، وخفض الجناح للتابعين مبدأ، والأخوة بين المؤمنين مبدأ، والعدل في الحكم بين الناس مبدأ، وتحمل التبعة مبدأ، والتعاون في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان مبدأ ، والأمانة في الحكم وفى غير الحكم ـ مبدأ ، وعدم كنز الأموال مبدأ ، والتطهر بالزكاة والصدقة مبدأ . هذه مبادئ وردت نصًّا في آيات القرآن الحكيم، ولكنها مبادئ عامة يجب التزامها ، فلم يورد مثلاً تفاصيل للشورى ، وإنما دعا دعوة عامة للشورى والمشاورة دون أن يحدد لها أسلوبًا محددًا ، ولم يورد القرآن شكلاً محددًا يمكن أن يقال إنه قدم به «حكومة إسلامية» على شكل معين ، وإن كان قد قدم المبادئ التي يتعين على كل أنواع وأشكال الحكم والحكومات أن تلتزم بها .