كلمة الأستاذ عبد الحليم علام في افتتاح أعمال المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب المنعقد في تونس

ألقى الأستاذ عبد الحليم علام، نقيب المحامين – رئيس اتحاد المحامين العرب، كلمة في افتتاح أعمال المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، المنعقد بدولة تونس تحت شعار: «فلسطين باقية، لا للمساومة، لا للتهجير، لا للتصفية»، وجاء نص الكلمة كالآتي:

معالي دولة رئيس مجلس نواب الشعب التونسي،
حضرة الأستاذ الجليل/ حاتم المزيو، عميد الهيئة الوطنية للمحامين بدولة تونس الشقيقة، رئيس دورة الانعقاد،
حضرة السيد الأستاذ الجليل/ المكاوي بن عيسى، الأمين العام،
حضرات السادة الأجلاء الأمناء العموم المساعدون وأعضاء المكتب الدائم،
السيدات والسادة وفود النقابات وجمعيات وهيئات المحامين العربية،
الحضور والضيوف الكرام،

تحية الحق والعروبة، وبعد:

جئتكم اليوم لا كرئيس لاتحاد المحامين العرب، بل كمحامٍ عربي يحمل لتونس وشعبها العربي وجمعية المحامين الوطنية فيها محبةً لا توصف، وتقديرًا لا ينفد، واعتزازًا لا يُقاس.
وأغتنم هذه الفرصة لأتقدم بعظيم الشكر وصادق العرفان إلى الجمعية الوطنية للمحامين في تونس، رئيسًا وأعضاءً، بعد ما لمسناه من تيسير كل السبل لاستضافة المكتب الدائم، من إجراءات دخول وفود الاتحاد، وحسن الاستقبال، والتنظيم الرائع، وكرم الضيافة، حتى يخرج الاجتماع على هذا النحو المشرّف. فلكم منا أسمى آيات التقدير والاحترام والإعزاز.

السيدات والسادة، الحضور الكريم،
التقينا هذا الصباح، وها نحن نجتمع في هذا المساء، نصبح ونمسي، وقلوبنا على همٍّ واحد، همّ غزة التي تنزف في صمت، وتحتضن بين أنقاضها صرخات الأطفال ودموع الأمهات، هناك في غزة، حيث تتكشف فصول المأساة بأبشع صورها.

حيث تُسفك الأرواح وتُمحى الملامح، في ظل انحياز أمريكي سافر – بل وسافل – وتواطؤ دولي يمد المعتدي بأسباب البقاء، بينما يقف العالم في صمتٍ أشد وقعًا من القذائف.
نجلس هنا بينما أهل غزة يواجهون الجوع والعطش، والبرد والتهجير، تحت سماءٍ لا تمطر إلا نارًا، وأرضٍ تضيق بأهلها حتى تدفعهم إلى ترك أراضيهم.

وفي خضم هذا المشهد القاتم، يطل علينا البعض – عن جهلٍ أو تجاهلٍ – ليكيل الاتهامات، ويُطلق حملات التشويه جزافًا ضد دولةٍ لم تتأخر يومًا عن القيام بواجبها القومي تجاه القضية الفلسطينية، هي مصر، التي دفعت ولا تزال تدفع من أمنها واقتصادها واستقرارها فداءً لأهل غزة، وتحمل شعبها من الأعباء ما تنوء عن حمله الجبال.

مصر التي لم توصد بابها يومًا أمام جريح أو مريض أو محتاج إليها من غزة، واحتضنت بعطفها وقلبها آلاف الأسر المكلومة، مصر التي فتحت مستشفياتها ومطاراتها ومخازنها، وسخّرت أجهزتها السيادية والمدنية لتسهيل كل ما يُخفف عن أهلنا في القطاع.

مصر التي تصل ليلها نهارًا لتنسيق إدخال المساعدات من جانبها، في مواجهة تعنت كيان الاحتلال الصهيوني الغاصب، المدعوم من الشيطان الأمريكي، والذي يسيطر على المعابر من الجانب الفلسطيني.
ورغم كل هذا، وعلى الرغم مما بات معلومًا للقاصي والداني من ثبات موقف مصر، الرافض دون مواربة لمشاريع التهجير القسري، إدراكًا منها أن التهجير ليس سوى بوابة صريحة لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها، تُواجه مصر حملات ظالمة، وتُحاصر سفاراتها بالتظاهرات – بدلًا من سفارات العدو الصهيوني –، وتُختصر أدوارها في شعارات غوغائية لا تُدرك المعادلات المعقّدة ولا التحديات الهائلة التي تتحرك فيها الدولة المصرية بسياسة متزنة، تجمع بين دعم الشعب الفلسطيني والحفاظ على أمنها القومي وحدودها وسيادتها.

نقولها في وضوح لا لبس فيه: إن مصر لن تقبل يومًا أن تكون بوابةً لتفريغ الأرض الفلسطينية من أهلها، ولا أن تُستخدم أراضيها ملاذًا لشرعنة مخطط استيطاني قائم على الطرد والتهجير القسري.
إن إنصاف مصر لا يكون بالصراخ في وجهها، بل بقراءة مواقفها في ضوء ما بذلت وما تتحمل منذ نكبة 1948 وحتى هذه النكبة الممتدة التي لم تنقطع يومًا.

الحضور الكريم،
اسمحوا لي أن أعود فأؤكد على أن شعوبنا العربية قد ضاقت ذرعًا بطنين الشعارات الجوفاء، وملّت من اجترار العبارات التي لا تُطعم جائعًا، ولا تنتشل طفلًا من تحت الركام، ولا تردّ صغيرًا إلى حضن أمه.
مللنا الأناشيد حين تبقى حروفًا في الهواء، لا تُترجم إلى مواقف شجاعة، وضغوط سياسية، وخطوات قانونية ملموسة على الأرض.
وإذا كانت قضية فلسطين العربية، وعاصمتها القدس، هي القضية المحورية لأمتنا العربية، فهي بالنسبة لهذا الاتحاد ركن ركين من أركان بنيانه؛ الأمر الذي يحمله مسؤولية لا تقبل التأجيل، فواجبُه الإنساني يدعوه للانتقال من مجرد بيانات جوفاء إلى إرادة فعلية تضع مواثيق العدالة الدولية موضع التنفيذ، قبل أن تُنسى وتُطوى صفحاتها في سجل الهوان.

واسمحوا لي أيضًا معاودة التأكيد على ضرورة أن لا يختتم اتحاد المحامين العرب دورة انعقاده لمكتبه الدائم دون أن يصدر قرارات حاسمة يمكنها أن تتحول إلى خطوات عملية على الأرض، تتضمن اتخاذ كل الإجراءات القانونية الممكنة.
ولا يجوز لهذا الاجتماع أن يُنهي أعماله دون أن يعلن موقفًا واضحًا يتسم بالحزم، وقرارات فعّالة تُترجم إلى تطبيقات واقعية ملموسة تدعم القضية وتعزز موقفنا القانوني العربي العادل.

الحضور الكريم،
إن القضية الفلسطينية، التي نجتمع اليوم لبحث مآسيها وتداعياتها، وما يصاحبها من عجزٍ عربيٍّ مطبق – بكل صراحة ووضوح مع النفس – ليست بمعزل عن واقع أليم يعيشه اتحاد المحامين العرب الذي نجتمع اليوم تحت مظلته، وقد صار مثقلًا بالكلام، مشلولًا عن الفعل، حتى بات العجز سمته.

ويبقى السؤال شاخصًا بلا مواربة:
هل آن أوان مغادرة مرحلة عقيمة ظل فيها هذا الاتحاد العريق حبيس دوائر الشجب والتنديد، غارقًا في التصريحات المكررة والبيانات المنمقة، بينما كانت قضايا الأمة تضيع تباعًا أمام مرأى ومسمع الجميع؟
وهل تُبشر اللحظة الراهنة ببداية التحوّل المنشود نحو أداءٍ حقيقي، فاعل ومؤثر، يستعيد للاتحاد بعضًا من رسالته التاريخية، ويعيد له مكانته التي افتقدها في ضمير الشعوب العربية؟

أسئلة ملحّة تطرح نفسها، في ظل عالم يتشكل على نحو مغاير، عالم لا يرحم المتقاعسين، ولا ينتظر المترددين، ولن يصلح شأنه المتآمرون. عالمٌ تجاوز زمن البيانات الخشبية العنترية إلى منطق الفعل والمواقف الحاسمة. فهل نملك الجرأة لنقف وقفة مراجعة حقيقية، ونمارس نقد الذات بشجاعة، قبل أن نمضي في أعمال هذا الاجتماع؟

وقفة نواجه فيها أنفسنا، بصدق ومسؤولية، بحقائق لا يصح تجاهلها مهما كانت موجعة.
ومن بين هذه الحقائق: أن هذا الاتحاد العظيم – بعد أن أنجب أجيالًا من القامات الكبرى، من الآباء المؤسسين الذين شيدوا جسور التضامن العربي، وكانوا صوتًا أمينًا لقضايا الأمة في المحافل الدولية – أصبح في العقود الأخيرة غريبًا عن نبض الشارع العربي، بعيدًا عن همومه، غائبًا عن أزماته، بعد أن تخلّى عن الرؤية، وانقطع فعله عن التأثير، فلم يعد له حضور يُذكر في أي لحظة مصيرية تهز وجدان الأمة، أو تهدد كيانًا من كياناتها، أو تستغيث فيها دولة عربية منكوبة.

وباتت مساهمته في أحلك الأزمات لا تتجاوز بيانات لا تكفي، ولا تعبّر، ولا تليق بمكانة الاتحاد ولا بتاريخه، تنحصر في دوائر الشجب والتنديد والإدانة والرثاء، وتغرق في لهجة خطابية تمرّ بلا أثر، فلا تجد صدى في وعي المواطن، ولا اهتمامًا من المحامي العربي، ولا تحظى بثقة الحكومات أو عناية المنظمات أو انتباه المحافل الدولية.

أما عن غياب التفاعل مع المحامين وأزماتهم المهنية فحدّث ولا حرج، فعلى الرغم مما واجهه المحامون في معظم الأقطار العربية من مشكلات وأزمات طاحنة، أقيمت بشأنها مؤتمرات، وحدثت من خلالها مواجهات مع الأنظمة والحكومات، ونُظّمت المظاهرات والاحتجاجات، بسبب تغوّل بعض القوانين والأجهزة عليهم بما يحول بينهم وبين أداء واجبات مهنتهم على النحو المطلوب، أو يفقدهم الاستقلال، أو يحملهم أعباء مالية تفوق الطاقة والقدرة، لم يكن للاتحاد أي تفاعل نحو ذلك ولو بالقدر اليسير.

وما يدعو إلى الدهشة والاستغراب، أن الاتحاد الذي نطالبه بدعوة الحكومات والأنظمة إلى احترام الدساتير والتشريعات المتعلقة بمهنة المحاماة، بات هو نفسه يمارس انتهاكًا صريحًا لقانونه ونظامه الأساسي وأعرافه المستقرة، ويتحايل لينتهك القوانين التي أنشأها، والعرف الذي ساد منذ نشأته، لتكون مرجعًا وضابطًا لعمله.
فمواعيد انعقاد مكتبه الدائم مضطربة، ومؤتمره العام لم يُعقد منذ سنوات طوال، بل تتم الدعوة الانتقائية إلى اجتماعات طارئة في غياب الظروف الطارئة، وتُتخذ فيها قرارات مصيرية عبر منصات إلكترونية – كـ”الزووم” – دون سند قانوني أو إجراءات منضبطة، وفي غياب الغالبية العظمى من أعضاء المكتب، والأعضاء الأصليين الممثلين للنقابات والجمعيات والهيئات النقابية الوطنية.

وفوق ذلك، يُزَج بالاتحاد في نزاعات داخلية وانحيازات غامضة، لا تمتّ لرسالته بصلة، مما أضعف مكانته، وأعاق رسالته، وانحرف بمسيرته العريقة عن الطريق الذي قام من أجله، لينجرف إلى صراعات جانبية لا غاية لها سوى تقويض دور النقابات والجمعيات والهيئات الوطنية العربية في الداخل والخارج لصالح أشخاص بعينهم.

ومن هذا المنطلق، نعيد التأكيد، على ما طالبنا به مرارًا في كلماتنا السابقة – ولم يلقَ آذانًا صاغية – من ضرورة احترام قانون الاتحاد، والالتزام بنظامه الأساسي، ولوائحه، وتقاليده الراسخة وأعرافه ومراكزه القانونية المستقرة.

ونهيب بهذا الاتحاد العريق أن تتوحد الجهود نحو تطوير بنيته القانونية والمؤسسية، وتجديد رسالته ودماؤه، وتطعيمه بالشباب والقامات العربية المهنية، وفق أسس متفق عليها بين النقابات والجمعيات والهيئات الممثلة للمحامين بمختلف الأقطار العربية، تمهيدًا للانطلاق بخطى واثقة نحو مشروع عربي موحد لتقنين مهنة المحاماة، بما يسمح للمحامين في كل الوطن العربي بممارسة رسالتهم في مختلف الدول العربية، كبديل وطني وشريف عن هيمنة الشركات القانونية الدولية.

كما نؤكد على أهمية استكمال الجهود المبذولة لإنشاء كيانات نقابية مهنية مستقلة في الدول العربية التي لا تزال تفتقر إليها، والعمل الجاد على التواصل مع حكومات تلك الدول من أجل إصدار تشريعات تضمن لهذه الكيانات الاستقلال التام، بعيدًا عن وصاية السلطة التنفيذية، صونًا لكرامة المهنة واستقلالها.

الحضور الكريم،
إن نقد الذات، ومراجعة النفس، والمصارحة الجادّة مع الواقع، لا ينبغي أبدًا أن يُفهم منها الانصياع لأصوات الفتنة والفرقة، أو الالتفات إلى أولئك الساعين إلى هدم كيان هذا الاتحاد وتمزيق بنيانه، طمعًا في مكاسب شخصية ضيقة تُقدَّم على المصلحة المهنية والوطنية والقومية، ولا أن تكون ذريعة لمساندة من يحاولون خرق لوائح الاتحاد ونظمه، وتسخيرها في صراعات داخلية محلية لا شأن له بها.

ولا بد أن ندرك أن استمرار هذا النمط من الأداء لا يليق بتاريخ الاتحاد، ولا يواكب التحديات، ولا ينهض بالدور المنتظر منه. فالواجب يحتم علينا أن نبدأ في إحياء رسالته، واستعادة دوره المؤثر، وفتح نوافذ جديدة للفعل الجاد والعمل المؤسسي المسؤول.

ولا ينبغي أن يتوهم أحد أن هذه الكلمات تهدف إلى إلقاء اللوم على أطراف بعينها، أو أن تُفهم على أنها تبادل للاتهامات، أو دعوة للخلاف والانقسام؛ فنحن أبعد ما نكون عن ذلك.
بل إن دعوتنا صادقة، خالصة، مخلصة، لإعادة إحياء الدور الريادي لاتحاد المحامين العرب، والذي تراجع وتوارى خلف الخلافات والنزاعات، في وقت أحوج ما نكون فيه إلى تماسك الصف، ووحدة الكلمة، وصدق العزم.

وليكن لنا في سيرة قادة هذا الاتحاد العظام على مر التاريخ أسوة حسنة؛ أولئك الذين وحّدوا، وقرّبوا، وسعوا إلى رأب الصدع، وتبنّوا قضايا الأمة في شتى المحافل، فجعلوا من اتحادهم صوتًا للضمير العربي، ونموذجًا مضيئًا للاستقلال والعزة والكرامة.

عاشت المحاماة، وعاش اتحاد المحامين العرب، وعاشت فلسطين حرّة عربية أبية،
«فلسطين باقية، لا للتطبيع، لا للمساومة، لا للتهجير، لا للتصفية».

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى