كلفة الثقافة وأزمة الكتاب والصحافة الورقية

من تراب الطريق (1076)

كلفة الثقافة وأزمة الكتاب والصحافة الورقية

نشر بجريدة المال الثلاثاء 6/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نشأنا في زمن ساد فيه ما يقترب من مبدأ مجانية الثقافة.. من كتب الهلال التي لازلت أقتنيها في مكتبتي الخاصة وعليها أثمانها: بسعر (8) قروش، اقتنيت ولا زلت من طبعات الخمسينيات: عبقرية محمد للعقاد، وهارون الرشيد لأحمد بك أمين، وأبو الشهداء الحسين بن على للعقاد، وعمر مكرم لمحمد فريد أبو حديد، وزعيم الثورة سعد زغلول للعقاد، وأشعب أمير الطفيليين للحكيم، وحديث رمضان للإمام الأكبر الشيخ المراغي، وأهل الكهف للحكيم، ومحمد على جناح للعقاد، وفي الطريق للمازني، وعبقرية عمر للعقاد، وعلمتني الحياة لنخبة من كتاب الشرق والغرب بإشراف أحمد أمين، وآمنة بنت وهب أم الرسول لبنت الشاطئ، ومدرسة المغفلين للحكيم، وفاطمة الزهراء والفاطميين للعقاد، ومدرسة الشيطان للحكيم، واعترافات شبابي للكاتب الروسي ليوتولستوى، وعبقرية خالد للعقاد… وغيرها .

وفي الستينيات رفعت دار الهلال سعر كتاب الهلال من (8) إلى (10) قروش.. ما بين طبعتي الحسين أبو الشهداء للعقاد أكثر من (15) عاما، ومع ذلك لم يرتفع سعر الطبعة الثانية (نوفمبر 1969) إلاّ قـرشين، فتشجعت واشتريتها للمرة الثانية فالسعر يا بلاش (10) قروش، ومن كتب الهلال التي اشتريتها في حقبة الستينيات بـ (10) قروش: إسرائيليات (حتى لا ننسى) لأحمد بهاء الدين، ورسالة التوحيد للإمام محمد عبده، وما يقال عن الإسلام للعقاد، وعلى هامش الغفران للويس عوض، وغراميات فيكتورهوجو للطفي سلطان، والإسلام في القرن العشرين للعقاد، وصقر قريش عبد الرحمن الداخل لعلى أدهم، والبحث عن شكسبير للويس عوض، ومطلع النور أو طـوالع البعثة المحمدية للعقاد، ورسائل نهرو إلى أنديرا لأحمد بهاء الدين، ومذكرات شارلى شابلن جزءان لصلاح حافظ، وتاريخ الفكر المصري الحديث للويس عوض… وغيرها .

وفي أواخر الستينيات مع ارتفاع الأسعار، والورق والطباعة، لم تزد دار الهلال الطبعات الضخمة الممتازة إلاّ قرشين، فبسعر (12) قرشا اقتنيت ولا زلت مطول العقاد عن ابن الرومي حياته وشعره، ومطول محمد رسول الحرية لعبد الرحمن الشرقاوي، وحياة المسيح للعقاد، ودراسات في النظم والمذاهب للويس عوض، وتوفيق الحكيم فنان الفرجة وفنان الفكر للدكتور على الراعي، ومطول حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد.. وغيرها.

ولم ترتفع أسعار كتاب الهلال ـ ارتفاعا جنونيا !!! ـ إلاّ في السبعينيات، فزادت قرشين دفعة واحدة، أي سعر الأعداد الممتازة في آخر الستينيات، فوجدت في مكتبتي من كتب الهلال بـ (12) قرشا، الإسلام دعوة عالمية للعقاد، واليسار الأوروبي المعاصر لأمير إسكندر، بل ووجدت دراسات أوروبية للويس عوض، وأيضا كتابه الفنون والجنون في أوروبا 1969 بسعـر (10) قــروش، ومع أن كتــاب « الوصول إلى السعادة » جمع بين التأليف للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل والترجمة للدكتور نظمى لوقا، إلاّ أنني وجدت ثمنه في آخر 1977 ـ (15) قرشا فقط.. كانت الأسعار حتى عهد قريب من أواخر التسعينيات لا ترتفع إلاّ بالقروش، وكل هذه المكتبة النفيسة المتكاملة التي تعمدت أن أذكرها واحدًا واحدًا، لا تعادل ثمن كتاب واحد في هذه الأيام.. فقد ظلت لغة القروش سائدة حتى عهد قريب كما كانت بالنسبة للصحف: قرش، ثم قرش وتعريفة، ثم قرشان.. حتى جاوزت الجنيه الآن، ولم يعد في متناول الجامعي الموظف أن يواظب على شراء ولو صحيفة واحـدة كل يوم، لأن ذلك سوف يكبده في الشهر 32 جنيها أخذا بسعر العدد الأسبوعي.. أما الكتب فقد طفرت أسعارها إلى أرقام بالجنيهات ليس في وسعه أن يفكر في اقتناء واحد منها وإلاّ كبده ذلك مع سعر الجريدة أكثر من نصف مرتبه !!

معنى أن يتضاعف سعر الكتاب من (8) قروش إلى (8) جنيهات، أن تكون الدخول قد تضاعفت مائة مرة !.. فهل تضاعفت الدخول بهذا القدر، وهل بقيت القوة الشرائية للجنيه ـ ودعونا من القروش فلم يعد لها ذكر إلاّ في كتب التاريخ ـ على حالها لم تنخفض حتى القاع بفعل التضخم الذي أتى ويـأتي على كل شيء !

معنى ذلك، ولا معنى سواه، أن تصبح الثقافة ترفًا لا يقدر عليه أوساط الناس ناهيك بالفقراء، أما الأغنياء فليسوا بحاجة أصلاً إلى الثقافة ولا تشغلهم ولا يطوف بها خيالهم !.. وانحصر اقتتال الناس على رغيف العيش وغذاء البطون، أما غذاء العقول فقد ودعه الناس وداعاً يستحضر عنوان: « وداعًا للسلاح » الذي أخرج سينمائيا عن رواية الكاتب الأمريكي إرنست همنجواى !

ودعنا مجانية الثقافة إلى غير رجعة، فودعنا معها الفكر والثقافة، وها نحن بسبيل وداع مجانية العدالة، لنفارق معها الإنصاف والعدل وعلى كل مظلوم أن يسند ظهره إلى الحائط.. إن استطاع أن يجد حائطاً !!

ترى ماذا نحن فاعلون في الأيام السوداء التي أدركتنا.. عفوا، لقد نسيت الحكمة القائلة: « استمتع بالسيئ فالأسوأ قادم » !!!

زر الذهاب إلى الأعلى