قيم العدل وطبائع الناس (1)

من تراب الطريق (976)

قيم العدل وطبائع الناس (1)

نشر بجريدة المال الأحد 15/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

تتفق منظومات الأخلاق، وضوابط القانون، مع دعوة الأديان بعامة للعدل والإنصاف.. ومع ذلك فالمتأمل في أحوال الناس يلاحظ أن معظمهم لم يستطع للآن إقناع نفسه بأن العدل قيمة مطلقة، وأنه يتلخص في الإقرار والاعتراف بحقوق الآخرين واحترامها والكف عن التعدي عليها أو الطمع فيها.. وأن هذا الاحترام واجب مهما كانت إغراءات الاستقواء بالمال أو بالقوة أو المكانة أو الجاه أو المنصب أو القدرة أو السلطان.. وبغض النظر عن الفوارق في المكانة أو الأهمية بين الناس بعضهم البعض !

فلم ينقطع مثلاً افتئات البالغين من الذكور على حقوق القصر أو الإناث، ولا طمع الأولياء أو الأوصياء في أموال الأيتام، ولا توقف استيلاء الطامعين على مال المالك الغائب أو العاجز أو المقعد أو المريض أو المشغول بأحماله عن متابعة ومراقبة ماله، ولا انقطعت مماطلة المدين في حقوق الدائن الذي لم يتحوط بكتابة أو ضاعت منه، ولم يرعو انتهاز المستأجرين أو يتوقف تحريضهم لتأليـب الحكـام أو القوانيـن على المالكيـن، أو الادعاء عليهم كذبًا بما يضنى ويرهق ويظلم.. ولم تتراجع الأطماع أو إساءة الانتفـاع بمـا بالحيازة أو تحت اليد من عين أو أرض أو عقار.. كما لم ينقطع تجبر الأقوياء على الضعفاء، ولا استقـواء الحكام بسلطانهم على المحكومين، مثلما لم ترعو الدول القوية أو العظمى أو تنصف ولو بعض الإنصاف في تعاملها أو بالأحرى تغولها على حقوق الدول الضعيفة التي لا تملك إيقاف عبث الكبار بمصالحها ومقدراتها !!

ولم ينقطع أحد من هؤلاء، شخصًا طبيعيًا كان أو اعتباريا، جماعةً أو حزبًا أو حكومةً أو دولةً، عن استيجاد المبررات والذرائع لتبرير مفارقة العدل والإنصاف، وإساغة التحيف والجور على حقوق الآخرين.. لا يقدم الأقوياء أسبابًا مفهومة ناهيك بالمقنعة لاعتراضهم على ما يجب للضعيف من إنصاف، ولا مبررًا لاصطناعهم الوسائل لتقليم وتعجيز فرصته في مواجهة القوى، ولا يكفون عن مصادرة أي مقاومة للرضوخ أو الانحناء !

لا يخجل الأقوياء من تبرير تحيفهم بأنه قانون القوة والاقتدار، وأن من حق القوى الانتفاع بقوته واغتنام الفرص بقدرته، وعلى الضعيف أن يدفع ثمن عجزه وخوره.. فالمال كالحق ـ لا بد له في نظرهم من قوة تقره وتحميه.. والمساواة ـ هكذا يبررون ! ـ  قضية نظرية تركن إليها الكثرة الخاملة العازفة عن بذل الجهد والمناضلة واتخاذ الأسباب.. القاعدة عن بذل ما يبوئها الجدارة والاستحقاق، بينما العدل ـ هكذا يرى المتحيفون !  ـ لا يكون إلاّ بحسب المواهب والقدرات،  فيكون المال في يد من يقوى على الانتفاع به في أغراضه، لا في يد الغافل أو السفيه أو الأحمق أو العديم الخبرة.. والعدل والمنطق أن تؤول غلته أو معظمها لمن يحسن استغلاله لا لمن لا يفكر في استغلاله أو لا يحسنه.. هذا الاستدلال سمعناه من فريق من مستأجري الأراضي الزراعية يطالبون بملكيتها قانونًا لزارعيها وليس لسواهم بمقولة إن «الأرض لمن يزرعها فعلا».. معنى ملكيتها ينحصر عندهم في زراعتها التي هي شاهد ملكيتها.. وهذه مغالطة تردنا إلى ما قبل التاريخ وقبل وجود الملكية الفردية!.. فالمالك في زماننا غير المالك بالماضي السحيق، والأرض في عالم اليوم كغيرها من عناصر الملك، قد يزرعها المالك بنفسه، وقد يزرعها بأجراء.. وقد يعتل فيؤجرها لمن يزرعها، وقد يموت فلا يترك إلا نساءً، وقد يترك ذكرًا بالغًا لا يمارس الزراعة.. فمباشرة المالك للزراعة بنفسه وجه واحد فقط من الوجوه العديدة التي من حقه أن يستخدمها أو يستعملها لانتفاعه بأرضه !

لا ينفي ذلك أنه يجب على المالك أن يهتم بأرضه.. سواء زرعها بنفسه أو زرعها غيره مقابل أجرة.. يجب هذا الاهتمام بأفعال إيجابية تشهد بأنه يشعر بمسئوليتها ومسئولية إنتاجيتها لأنها من عناصر الإنتاج القومي الأساسية.. وملكيتها يجب أن تكون مصحوبة دائمًا بالإحساس بتلك المسئولية.. وهذا يقتضي من المالك ألا ينقطع اتصاله بها بالطريق التي يرى أنها كافية مؤدية لهذا الاتصال.. فهي ليست ملكية لمال مودع أو مقرض أو مصدر إيراد اصطلاحي كالسندات وغيرها مما قد لا يقلق عليه صاحبه مادام الإيراد لا ينقطع أو لا يقل أو يتناقص.. وإنما هي ملكية متميزة لشيء فيه حياة لا للمالك وحده وإنما لعموم الحياة والناس، ولذلك يجب على مالكها أن يحافظ على حيويتها وإنتاجيتها وأن يزداد ذلك مع الزمن وحسن الخدمة والتبصر.. وإذا كان همّ المستأجر في العادة هو الحصول على منفعته هو العاجلة مدة عقده مهما أهلك الأرض أو أضعف خصوبتها، فإن المالك العاقل يهتم بالمنفعة الآجلة للأرض قبل العاجلة . وقد أطمع مستأجري الأراضي الزراعية طول حيازتهم لما تحت يدهم رغم أنف المالكين وثبات أجرتها ثباتًا لا يكاد يتغير ـ رغم تغير الأوقات وارتفاع أسعار المحاصيل وشدة تدهور قوة النقود على الشراء !.. وهذا وذاك حرما الملاك من ميزتين أساسيتين هما توقيت الإجارة وإمكان زيادة الأجرة مما أدى إلى فقدان التوازن بين مركز المالك ومركز المستأجر، فصار المالك مجردًا من الحماية أو يكاد، وصار المستأجر متخمًا بالحماية تسانده الدولة بقوانينها وسلطاتها.. ولم يعد في مقدور المالك إلاّ أن يحتال بحيل معظمها غير مجدٍ للخلاص من هذين القيدين الثقيلين.. ولم يعد المستأجر يصبر عن طلب الاعتراف به كمالك قانوني لما تحت يده من أرض بعدما باتت في يده سنوات طويلة، صارت بها في نظره في حكم المملوك له.. ولأولاده من بعده! وإذا أراد المالك أن يبيعها باعها والمستأجر عليها بالبخس وإلاّ قاسمه المستأجر ثمنها فأخذ نصفه ما لم يطمع المستأجر في المزيد !

زر الذهاب إلى الأعلى