قرينة البراءة المؤجلة
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
فما الذي يحدث إذا صدر حكم جنائي ضد متهم، ثم طعن فيه أمام محكمة النقض، ولكنه توفي قبل أن يُفصل في طعنه؟ هل يسدل القانون الستار على الدعوى الجنائية بانقضاءها بالوفاة؟ وماذا عن الحكم الصادر ضده الذي لم يصبح باتًا بعد؟ هل تبقى آثاره قائمة تلاحق سمعته وذكره، وتثقل كاهل أسرته بأعباء مالية، رغم أن العدالة لم تقل كلمتها النهائية بعد؟ وهل يظل ورثته مطالبين بتنفيذ ما قضى به الحكم من التزامات مالية، بينما حُرم مورثهم من فرصة الدفاع الأخير عن براءته؟ أليس في هذا مفارقة تمس صميم العدالة التي يفترض أن تكون كفيلة بصون الكرامة الإنسانية حتى بعد الرحيل؟
القاعدة المقررة في قانون الإجراءات الجنائية واضحة: بوفاة المتهم تنقضي الدعوى الجنائية. والهدف من هذه القاعدة في جوهرها منطقي، إذ لا معنى لاستمرار ملاحقة إنسان رحل عن الحياة. لكن، حين نتأمل الموقف بدقة، نكتشف أن وفاة المتهم بعد صدور حكم ابتدائي أو استئنافي وقبل حسم الطعن بالنقض تضعنا أمام فراغ تشريعي مقلق. فالقانون يقضي بالانقضاء، لكن الحكم غير البات يظل قائمًا بما يحمله من إدانة لم يجر اختبارها أمام محكمة النقض، وما يترتب عليه من آثار مالية تلزم الورثة. هنا تطرح العدالة سؤالها الصارخ: هل يصح أن يورث الإنسان وصمة جنائية لم يجرِ حسمها بحكم بات؟
تخيل حالة رجل صدر ضده حكم بالسجن وغرامة في جريمة مالية، فسارع إلى الطعن بالنقض مؤكدًا أنه ضحية التباس في الأدلة، لكن القدر لم يمهله حتى يثبت صحة دفاعه، فتوفاه الله قبل نظر طعنه. ما الذي يحدث؟ الدعوى الجنائية تنقضي، لكن الحكم الصادر ضده يظل قائمًا بآثاره: أسرته مطالبة بسداد الغرامة، وسمعته تبقى مشوبة بما قضى به الحكم الذي لم يكتسب حجية نهائية. قد يكون بريئًا، بل ربما كان النقض كفيلًا ببراءته، لكن الموت حرمه من الكلمة الأخيرة للعدالة. أليس في ذلك ظلم للذكرى وللذرية معًا؟
في الفقه المقارن، لا نجد القانون المصري فريدًا في هذا السياق، بل القانون الفرنسي أيضًا يأخذ بذات القاعدة، وكذلك العديد من التشريعات الأخرى. ومع ذلك، قلما طُرحت هذه الإشكالية للنقاش، وكأنها ثغرة صامتة في صرح العدالة. إلا أن البعد الإنساني لا يسمح بتجاهلها. فالعدالة ليست نصوصًا جامدة، بل روح تستشعر أثر الحكم على الأحياء والأموات على السواء. إن بقاء حكم غير بات قائمًا بعد وفاة المحكوم عليه يخل بقرينة البراءة، ويجعل المجتمع يتعامل مع المتوفى كمدان رغم أن العدالة لم تُكمل دورتها الطبيعية.
قد يقول قائل إن الورثة يمكنهم أن يلتجئوا إلى القضاء المدني للطعن في ما ترتب من آثار مالية، لكن الحقيقة أن ذلك لا يمحو الأثر الرمزي والمعنوي للحكم الجنائي. فالإدانة الجنائية ليست كغيرها من الأحكام؛ إنها وصمة تمس الشرف وتعلق بالذكرى، وتترك أثرًا يتجاوز الورق إلى الضمير الجمعي للمجتمع. ولعل الحل الأعدل أن يُعطى للورثة الحق في مباشرة الطعن بالنقض نيابة عن مورثهم، ليس لمجرد تجنب الأعباء المالية، وإنما لصون اسمه وإتاحة فرصة لإثبات براءته إن كان بريئًا. أو على الأقل أن يُخوّل لمحكمة النقض، رغم الوفاة، أن تفصل في الطعن إذا كان من شأنه إبراء ذمة المتوفى وإزالة العار عن ذكراه.
إن العدالة الحقة لا تقتصر على ملاحقة الجناة الأحياء، بل تمتد إلى حماية سمعة من رحلوا، ومنع أن تُسجل ضدهم إدانات لم تُمحص بكامل درجات التقاضي. فما جدوى أن يقال إن الدعوى الجنائية انقضت بالوفاة، بينما يظل الحكم السابق وصمة معلقة لا سبيل إلى رفعها؟ أليس من الأولى أن يُطوى الملف بحكم قضائي منصف يقرر الحقيقة كاملة، لا بقرار شكلي يقضي بالانقضاء؟
الخلاصة أن هذه الإشكالية تكشف عن حاجة ماسة لإعادة التفكير في قاعدة راسخة تبدو منطقية على السطح لكنها تترك فراغًا في العمق. فالموت لا ينبغي أن يكون قاطعًا لفرصة المتهم في تبرئة اسمه، ولا سببًا لإبقاء وصمة لم يبت فيها القضاء بحكم بات. ولعل السؤال الذي بدأنا به يبقى معلقًا حتى يلتفت المشرع إلى هذه الثغرة: هل يعقل أن يخرج إنسان من الدنيا تاركًا وراءه حكمًا غير بات يطارده في ذاكرته الاجتماعية والأسرية إلى الأبد؟ إذا كانت العدالة غايتها إنصاف الأحياء وصون كرامتهم، فإن جزءًا من رسالتها الأسمى أن تضمن للراحلين أن يُذكروا بإنصاف، لا بوصمة لم يجرؤ القانون على تصحيحها. والله من وراء القصد.