قتل النفس بين الشرع والقانون وعلم النفس
نشر بجريدة الوطن الجمعة 8 / 10 / 2021
ـــــــ
بقلم : الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
لحظة الانتحار .. أعنى التنفيذ لا القرار ، فالقرار قد يرتد عنه صاحبه حين يشرف على الموت . هذه اللحظة لحظة مخيفة ، لم يعد ميت إلى الحياة ليروى ما أحـاط بـه وألقاه فى هذه البئر السحيقة ليقدم بإرادته على مفارقة الحياة إلى موت لا عودة منه إلى دنياه !
نستطيع أن نستنتج أن الدنيا لا بد قد اسودت فى عينيه ، وضاقت به السبل ، وفقد بوصلة التعامل مع واقع مرير أو تعس أو ميئوس منه ، ولكن كثيرين يمرون بحالات عميقة من الإحباط والتعاسة والاكتئاب دون أن يجرأوا على اتخاذ هذا القرار ناهيك بتنفيذه المخيف فى لحظة أقرب إلى الجنون يعطى فيها المنتحر ظهره إلى أسرته وذويه وصداقاته وزمالاته وعمله ودنياه بأسرها ، وهى مهما شابها معلومة مجربة ، ليغادرها إلى موت ما من حىّ إلاَّ ويخافه ويخشاه ويرهب ما وراءه من مجاهيل تختلط برهاب الخوف والإشفاق مما بعده مما لا يعلمه حىّ !
شىء مخيف مؤسف أن تغرب دنيا شخص دون أن يملأ شراعًا يعرف به كيف يسيّر سفينة ، وأكثر من هذا أسفا أن تخمد فى الإنسان رغبته فى الحياة ، وهى قاسم مشترك لدى الأحياء ، ليحل محلها فى لحظة يأس مريعة بيع الحاضر والماضى وخلع ثوب الحياة .. لينتهى كل شىء ويسدل الستار ..
ويبدو من الدراسات الإنسانية أن ظاهرة الانتحار لا تقتصر على الفقراء أو الدول الفقيرة ، وقد دلّت الإحصائيات المتتالية التى أجريت فى الولايات المتحدة مضرب الأمثـال فى الثراء العـام ، وعـدد الأثرياء ، على أن حالات الانتحار زادت بين الأمريكيين ، وامتدت إلى الأثرياء مثلما طالت الفقراء ، بل ورأينا نجومًا لامعة فى السينما الأمريكية يقبلون على الانتحار ، من أبرزهم نجم النجوم اللامع روبن ويليامز الحاصل الأوسكار ، ولا نزال فى مصر نتعجب إلى اليوم من انتحار المغنية العالمية داليدا ، ويبدو أن أسباب الانتحار متعددة بعيدة الأغوار فيما يصيب النفس الإنسانية فيدفعها إلى التخلص من الحياة ، وإسدال الستار .
الشىء اللافت أن كل الثراء الأمريكى لم يحم الأمريكيين من التمزق والسقوط النفسى الذى يجمع حالات الانتحار على اختلاف صورها أو أسبابها . وأن مظاهر القوة الكاسحة التى تتحكم فى مصائر العالم وتفرض ما تريده ، قد سقط منها الإنسان . تفقد الدول والأنظمة والحكومات بوصلتها الحقيقية حين تجرها نزعات الهيمنة والسيطرة وأمجاد القوة إلى إهمال الإنسان ، رأينا ذلك يلازم دكتاتوريات وفاشيات ونازيات ، ولكن كان الظن أن تنجو الديمقراطيات الليبرالية من السقوط فى وهدته ! هل ذلك يشير إلى أن هذه الأطر لا تخلو من آليات داخلية تحكمها مصالح ساهمت وتساهم مع تراكم الأزمات فـى غياب قيمة الإنسان الفرد مع أنه ” أغنية ” هذه الأنظمة ؟!
ظنى أن الانتحار لحظة فارقة مخيفة تدعو المجتمع الإنسانى بعامة ، إلى مراجعة ما أمسى يشوب دنياه من مفارقات وحروب ومظالم ومطاحن ومصارع وإهلاكات صبت وتصب فى انهزام الإنسان أمام قوى شريرة باتت للأسف هى المتحكمة فى مصير العالم .. وفى دنياه !
سهل جدًا أن تقول إن الانتحار ضعف إيمان أو كفرٌ أو إخلال بأمر الله ، وستجد سندك فى القرآن والسنة ، وفى كتب الأديان بعامة . بيد أن هذا الخطاب لا يصل إلاَّ إلى العقلاء الذين لم يعترضهم من العوارض والمشكلات والضائقات ما يفقدهم نعمة العقل ، بينما لا يصل هذا الخطاب إلى من قتل نفسه ومضى ، ولا إلى من أطبقت عليه الهزيمة الكاملة وتملكت منه فكرة الانتحار لحظة جنون عارض ، لا يعقل فيها ، ولا يستمع لخطاب دين أو عقل .
وأكثـر سهولة أن تقيد الواقعة قانونًا ـ بعد التأكد من أنها انتحار لا قتل ـ أن تقيـد « قتل عمد » ، وانقضاء الدعوى الجنائية عنها بوفاة الفاعل أى القاتل الذى قتل نفسه المؤثم فى القانون قتلها !
ولكن الصعب ، ولكنه الواجب ، أن تتقصى أسباب وصول المنتحر إلى تلك اللحظة التى يركبه فيها جنون يطيّر عقله ويدفعه إلى أكره ما يكرهه حى ، وهو التخلص من حياته ، فالموت هو الحقيقة الوحيدة التى يجتمع على كراهتهما جميع الأحياء !
فإذا كانت كل الأسباب تصب فى النهاية فى انهزام النفس ، وتشخيصها منعقد لعلم النفس ، إلاَّ أن تلك الأسباب تدور بين العلل الخَلْقية ، وقلة الحيلة ، سواء فى النفقة ، أو فى التعامل مع البيئة ، أو مع مرض عضال لا ينتظر منه شفاء ، أو حب مشبوب أخفق إخفاقًا جارحًا للنفس والكرامة ـ وكلها أسباب تدور حول التدين ، والتعليم ، والصحة ، والبيئة ، والظواهر الاجتماعية ، فضلاً عما تكون عليه النفس أصلاً من ضعف فى الإدراك ، أو نزعات للتشاؤم ـ أو فقدان الصبر والقدرة على التجلد والمواصلة .
هذا الاستقصاء واجبٌ يستوجب البحث فى الظروف الاجتماعية بعامة وفى العوارض التى عرضت للمنتحر بخاصة .
وظنى أن هذا البحث أو الاستقصاء يلاقى صعابًا فى شعبتيه ؛ فالدول بعامة لا ترحب بالتفتيش فى سلبياتها وسياساتها واقتصادها ، أو منظوماتها الصحية والتثقيفية والتعليمية ، أو فيما يشوب الحياة الاجتماعية من سلبيات تفرز المعاناة !
وليس المحيط الخاص بأحسن حظًّا فى سبر الجذور والأسبـاب والمسببـات ، فمعظم من فيه يشغلهم « التبرير » ، ما بيـن الرغبـة فـى إبراء الذات ، أو فى الإلقاء على آخرين ، بمن فيهم المنتحر ، أو ادعاء الأريحية وصنع كل ما فى الوسع والطاقة ، إلى آخر ما يصادفه المتحرى عن الحقيقة بين أناس يختلفون فى تراكيبهم وفى ثقافتهم وفى دوافعهم وفى خَلْقهم وخُلُقهم ، وفى نفسية كل منهم على اتساع المساحة بين الإيجابيات والسلبيات .
هنالك يستسهل المهتم بالتحليل والاستقصاء ، اللجوء إلى صفحات الأديان ، لالتماس براهين إنكار الأديان لقتل النفس ، لما فيه من ضعف فى الإيمان ، وفى الثقة بالله ، وما أنذرت به الأديان من جزاء لمن يقدم على رد نعمة الله عليه ، بأن يقتل نفسه التى أنعم الله بها ، وهو خالقها الذى إليه وحده ـ سبحانه ـ حياتها ومماتها .
ومن الإنصاف أن نقر أن الخطاب الدينى يقوى ثقة النفس بعامة والمتزعزعين بخاصة ــ ثقتهم فى ربهم وعدم انقطاع أحبال الأمل لديهم ، والأمل هو القاطرة التى تشد النفس إلى الأمام ، وتحميها من مردودات الإخفاقات أو السقطات ، وتعلمها أن الإنسان ما يقع إلاَّ ليقف ، وأن العزم تتجمع فيه كل الخصال الإيجابية التى تعين على المضى بقوة فى رحلة الحياة .
ظنى أن مساحة الفكر يمكن أن تملأ الفراغات الشاغرة بين وسائل الاستقصاء ومعالجة الأسباب ، وإيقاظ الوعى الدينى . فالفكر فى مقدوره أن يهدى الإنسان إلى الأسلوب الأمثل فى معالجة ما لا بد أن يلاقيه فى رحلة الحياة التى لا تخلو من الاحتمالات ومن الصعاب والأضرار والصدمات .. ويضىء له شموعًا يستهدى بها لدفع اليأس والتشاؤم ، وشد العزم وإثراء الثقة بالنفس والأمل فى الغد ، وشد الأزر على تحمّل المشاق والصعاب ، وما إلى ذلك مما تقوّى وتشتد به النفس ، ويبعد عنها اليأس المطبق وفكرة التخلص من الحياة .
وهكذا نرى أن حالات الانتحار مسئوليتنا جميعًا ، وعلاجها كذلك ، وأن علينا مداومة التأمل فى حياتنا فى شتى جوانبها ، بدءًا بتربية أطفالنا من شهورهم الأولى ، وانتهاءً بعلاج كل ما يستوجب العلاج منها ، وظنى أنه كثير !