قانون حظر تعارض مصالح المسئولين في الدولة المعطل

بقلم / محمد شعبان المحامي

في عام 2013 أصدر الرئيس المؤقت المستشار/ عدلي منصور قانون حظر تعارض المسئولين في الدولة بموجب المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 2013، وكان هذا التشريع بمثابة نقلة تشريعية تعكس رؤية الدولة لمخاطر تعارض المصالح واثرها السلبي على نزاهة النظام السياسي، وبدا من ذلك أن أولويات الدولة في المرحلة التالية لصدور هذا القانون هي أن تضع نصب عينيها كافة الجوانب السلبية التي أدت إلى تفجر الأوضاع السياسية فيما قبل يناير 2011.

وبعد صدور القانون وقراءة نصوصه؛ تبين أن المادة الأولى منه حددت المخاطب بأحكامه، وهو المسئول الحكومي، وعرفت المادة الثانية من القانون مصطلح المسئول الحكومي بأنه كل شخص يشغل أحد المناصب أو الوظائف المنصوص عليها بالمادة الأولى من هذا القانون، وهذه المناصب والوظائف تمثلت في الآتي: أ- رئيس الجمهورية. ب- رئيس مجلس الوزراء والوزراء. ج- المحافظين وسكرتيري عموم المحافظات ورؤساء الوحدات المحلية. د- رؤساء الهيئات والمؤسسات والمصالح والأجهزة العامة. هـ- ونواب ومساعدي الأشخاص شاغلي المناصب والوظائف المشار إليهم في البنود السابقة، ومن يفوضونهم في بعض الاختصاصات.

وبدا من خلال هذه الخطة التشريعية، ان القانون الجديد وضع نصب عينيه شاغلي المناصب السياسية والمناصب التنفيذية ووظائف الإدارة العليا، أخذاً في الاعتبار أن شاغلي هذه المناصب هم صناع القرار المؤثر في النظام السياسي للدولة، ولهذا جاءت سياسة المشرع متجهة إلى إحاطة عمل هؤلاء المسئولين بسياج يحد من أي تضارب محتمل بين مصالحهم الخاصة والمصالح العامة التي يسهرون على تحقيقها وحمايتها انطلاقاً من واجبات وظائفهم.

وقد نظم القانون المذكور حالات التعارض المطلق والنسبي بين المصالح، وحدد ما يتعين أن يلتزم به المسئولون الحكوميون من واجبات لتجنب هذا التعارض، ومن أهم الواجبات التي ألقاها هذا القانون على عاتق المسئول الحكومي ما نصت عليه المادة الخامسة عشر منه من حظر تولي المسئول الحكومي عند ترك منصبه أو وظيفته لأي سبب، ولمدة ثلاثة أشهر تالية، أي منصب أو وظيفة في القطاع الخاص لدى شركة أو جهة كانت تابعة أو مرتبطة بعمله السابق، أو خاضعة لرقابته، أو القيام بأعمال مهنية خاصة ترتبط بها، أو التعامل مع الجهة التي كان يرأسها إلا بعد موافقة لجنة تسمى (لجنة الوقاية من الفساد) وهي لجنة مستحدثة بموجب المادة الرابعة من قانون حظر تعارض المسئولين في الدولة أناط القانون برئيس الجمهورية إصدار قرار بتشكيلها وتحديد اختصاصاتها، وعهد إليها المشرع بمهمة تطبيق القانون المذكور، بما في ذلك ما يعد تعارضاً مطلقاً أو تعارضاً نسبياً، بالمفهوم المتقدم ذكره.

ولم يكتف القانون بهذا الحظر النسبي، وإنما أورد النص على حظر مطلق -أي دون اشتراط موافقة لجنة الوقاية من الفساد- وهو الاستثمار في المجالات التي كانت تابعة للمسئول بشكل مباشر أو تقديم الاستشارات لشركة كانت تابعة أو خاضعة لرقابة الجهة التي كان يرأسها، وذلك خلال المدة المشار إليها، كما يحظر عليه كذلك -مطلقاً- القيام بأي عمل مما يمكن أن يعد استغلالا للمعلومات التي كان يتيحها منصبه أو وظيفته السابقة.

وقد رصد القانون عقوبة لمخالفة هذا الحظر المنصوص عليه بالمادة الخامسة عشر من القانون؛ فنصت المادة (17) منه على عقوبة الحبس والغرامة التي لا تقل عن العائد الذي تحقق ولا تزيد على ضعفه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من خالف أحكام هذا القانون، وذلك بالقطع دون الإخلال بأية عقوبة أشد منصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر.

ومن هذا التنظيم يتضح تطور سياسة المشرع المصري في مواجهة جرائم الفساد السياسي؛ فلم يكتف بتجريم جرائم التربح أو جلب المنافع من الوظيفة او المنصب العام بموجب المادة (115) من قانون العقوبات، بل ساير التطور الذي لحق بسياسة المشرع الفرنسي، بتجريم ما يسمى بالتربح من العمل السابق، وهي الجريمة المؤثمة بنص المادة (432-13) من قانون العقوبات الفرنسي.

ولئن كان مشرعنا المصري ساير المشرع الفرنسي في هذه الخطة الجنائية لمواجهة واحدة من أخطر جرائم تعارض المصالح للمسئولين في الدولة، إلا أن هذه المسايرة شكلية فقط، ولم تكن سياسة الوقاية والتجريم على قدر كاف من الموضوعية على النحو الذي تتحقق معه الحماية الجنائية المطلوبة للمصالح العامة من مخاطر التعارض.

ويمكن الإشارة إلى جملة من الأخطاء التي وقع المشرع المصري فيها وهو بصدد تجريم هذا الفعل (التربح من العمل السابق) والتي أفقدت التجريم لجدواه؛

أولاً: أن المشرع الفرنسي حدد فترة زمنية معينة يتعين خلالها المسئول الالتزام بعدم الحصول على أي عمل أو الدخول في أية شراكات أو أخذ أية منافع من أي كيان خاص كان خاضعاً لرقابته أو إشرافه بأي شكل من الأشكال، إلا بعد مرور فترة زمنية لا تقل عن ثلاث سنوات، وبالرجوع إلى موقع المشرع المصري، يتضح أن المدة الزمنية التي نصت عليها المادة (15) من قانون حظر تعارض مصالح المسئولين في الدولة بعدما كانت (ستة أشهر) صححت بموجب الاستدراك الصادر عن الأمانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء- والمنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 ديسمبر 2013- لتكون (ثلاثة أشهر فقط !!) ولا شك أن هذه المدة تجعل من النص عديم الجدوى، لأن التعارض محتمل ومتصور، لأن المسئول بعد تركه المنصب يظل مطلعاً على أسرار الدولة، ومن غير المنطقي أن نجعله فريسة لشركات القطاع الخاص لتتكالب عليه لتستفيد مما عنده من معلومات كان من المفترض أنه محتفظ بسريتها لأسباب تتعلق بمنصبه السياسي أو الوظيفي، وأن نسمح له بعد مرور ثلاثة أشهر فقط من ترك هذا المنصب أو الوظيفة، بالانخراط في العمل الخاص، مما يعرض مصالح الدولة وأسرارها التي اطلع عليها ذلك المسئول لخطر المتاجرة بها، بما يخل بمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة بين شركات القطاع الخاص، لأن الشركة الفائزة هي التي ستتمكن من استقطاب هذا المسئول للعمل لديها.

ثانياً: لم يعلق المشرع الفرنسي نفاذ النص على شرط، ولم يضع قيد، مثلما فعل المشرع المصري والذي جعل حظر تولي المسئول الحكومي لمنصب أو وظيفة في أي من شركات القطاع الخاص بعد تركه لمنصبه، أو توليه منصباً أو وظيفة في إحدى الجهات التي كانت تابعة أو مرتبطة بعمله السابق أو خاضعة لرقابته، أو القيام بأعمال مهنية خاصة، موقوفاً على موافقة من “لجنة وقاية الفساد”، ولعل هذا القيد هو ما جعل قانون حظر تعارض المسئولين في الدولة قانوناً معطلاً منذ تاريخ صدوره وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، لأن لجنة وقاية الفساد مازالت حتى الآن لم يصدر قرار بتشكيلها، وهي المتوقف عليها تطبيق هذا القانون على نحو ما نصت عليه المادة الرابعة منه.

لذلك يمكننا القول إن قانون حظر تعارض مصالح المسئولين في الدولة هو قانون مع وقف التنفيذ، ولم يدخل حيز النفاذ حتى الآن، على الرغم من مضي ما يزيد على عشر سنوات من تاريخ صدوره، والسبب في ذلك هو إحجام السلطة المختصة عن إصدار القرار المنظم للجنة الوقاية من الفساد.

ونظراً لأهمية هذا القانون، وأهمية المسارعة في تطبيقه لوضع حد لحالات تعارض المصالح للمسئولين في الدولة المخاطبين بأحكامه، فقد سارع البعض في إقامة دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، للمطالبة بإلغاء القرار السلبي بامتناع رئيس الجمهورية عن إصدار القرار المنظم للجنة الوقاية من الفساد، والذي يتوقف عليه تطبيق القانون، وقد وضعت هيئة مفوضي الدولة تقريراً في إحدى تلك الدعاوى وهي الدعوى رقم 27181 لسنة 70ق أوصت فيه بقبول هذه الدعوى شكلاً وفي الموضوع بإلغاء قرار رئيس الجمهورية السلبي بالامتناع عن تشكيل لجنة الوقاية من الفساد وتحديد اختصاصاتها، واستند التقرير إلى أنه أضحى واجباً على الجهة الإدارية متمثلة في رئيس الجمهورية الإسراع إلى تنفيذ أحكام القانون رقم 106 لسنة 2013 بشأن حظر تعارض مصالح المسئولين في الدولة وتشكيل لجنة الوقاية من الفساد، التزاماً بتحقيق الشرعية وسيادة القانون، ونزولاً على مسئوليتها السياسية أمام السلطة التشريعية، ويغدو من ثم مسلكها في الامتناع عن إصدار قرار بتشكيل لجنة الوقاية من الفساد بعد أن تخطت فترة سريان القانون رقم 106 لسنة 2013 ثلاث سنوات، وانتهت عملية مراجعة التشريعات التي صدرت خلال الفترة الانتقالية ولم يكن فيها مساس بهذا التشريع، فيغدو هذا المسلك يشكل قراراً سلبياً مخالفاً للقانون، متعيناً التقرير بإلغائه.

وعلى الرغم مما أوصت به هيئة مفوضي الدولة؛ إلا أن محكمة القضاء الإداري كان لها رأي آخر، وقضت بعدم قبول تلك الدعوى على سند من خلو القانون رقم 106 لسنة 2013 من أي نص يلزم رئيس الجمهورية بإصدار قرار بتشكيل لجنة الوقاية من الفساد وتحديد اختصاصاتها خلال ميعاد محدد!!!. ولا شك أن هذا السبب الذي شيدت عليه المحكمة قضائها -في تقديري- هو محل نظر ويصعب التسليم به؛ لأن المادة (20) من قانون حظر تعارض مصالح المسئولين في الدولة قد نصت على أن ينشر هذا المرسوم بقانون في الجريدة الرسمية ويعمل به بعد شهر من تاريخ نشره، أي أن القانون دخل حيز النفاذ بتاريخ 13 ديسمبر 2013، وإذ جعلت المادة الرابعة تطبيق هذا القانون مرهون بصدور القرار المنظم للجنة الوقاية من الفساد والتي اناط بها القانون تطبيق أحكامه، الأمر الذي كان يلزم معه صدور قرار تشكيل اللجنة اعتباراً من دخول القانون حيز السريان، وإذ تراخى صدور القرار دون سبب مشروع أو وجيه، واستمر التراخي إلى ما يزيد على عشر سنوات، فإن المسلك السلبي للجهة الإدارية  (ممثلة في رئيس الجمهورية) يغدو والحال كذلك مخالفاً للقانون لانتفاء السبب المنطقي والسائغ للتراخي في إعمال موجبات القانون وأداة تطبيقه، وهو ما ينطوي على قرار إداري سلبي بتعطيل أحكام قانون أقرته السلطة التشريعية وصدر وصار قانوناً من قوانينها، وهو ما يتنافى مع الواجب الدستوري بالالتزام بأحكام الدستور والتي من بينها تنفيذ القوانين باعتباره رأس السلطة التنفيذية.

وبإزاء هذا التوجه القضائي لم يعد أمامنا سوى مناشدة فخامة رئيس الجمهورية للمسارعة بإصدار قرار تشكيل لجنة الوقاية من الفساد، كخطوة أولى لدخول قانون حظر تعارض مصالح المسئولين في الدولة حيز النفاذ والمسارعة في تطبيقه إعلاء للمصلحة العامة عن طريق وضع ضوابط لدرء قيام حالات تعارض مسئوليات وواجبات المسئولين الحكوميين مع مصالحهم الشخصية بما قد ينعكس سلباً على أدائهم لوظائفهم ويمنع التلاعب بمقتضيات أعمالهم الوظيفية ويحافظ على المال العام.

والله من وراء القصد

 

زر الذهاب إلى الأعلى