قانون السلطة القضائية بين خلل التشريع وإشكاليات التطبيق

دكتور أحمد عبد الظاهر- أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني لدى دائرة القضاء – أبو ظبي
مقدمة
ولاية القضاء من أسمى الولايات قدراً، وأعزها مكاناً، وأعظمها خطراً. بها تعصم الدماء، وتصان الأعراض وتحمى الأموال. وليس هذا شأن القضاء في عصر دون عصر، أو في مصر دون مصر، وإنما هو عام في كل البلدان، وقديم قدم الجماعة البشرية التي استشعرت دوماً حاجتها الملحة إلى من يقر الحقوق ويبث الطمأنينة في النفوس. وليس من سبيل إلى ذلك سوى بإرساء قضاء عادل، لا يخشى في الحق لومة لائم. قضاء يقوم عليه أناس لا يشغلهم سوى إعلاء كلمة الحق، يتحرقون شوقاً إلى تحقيق العدل، انتصاراً للمظلوم على الظالم، معتزين بكرامتهم، شامخين بعزتهم، لا يغريهم المال وإن كانت لهم به حاجة، ولا يستهويهم المنصب وإن هفت إليه النفوس. تؤرقهم صرخة المظلوم، فلا يقر لهم جفن حتى تطيب نفسه برفع الظلم عنه، ويهنأ خاطره بالانتصاف له من ظالمه، أياً كانت مكانته وقوته، ويطمئن قلبه إلى أنه في حمى، لا تصل إليه يد ظالم مهما كانت طائلة.
وقضاء هذا شأنه، لابد أن يتوافر في القائمين عليه شروط لا نبالغ إذا قلنا إنها لا تتوافر في الكثيرين في كل زمان. لذا، كان من الضروري التدقيق أشد الدقة في انتقائهم واختيارهم. وبعد هذا الاختيار، يكون وضع الضمانات التي تكفل لهم أداء رسالتهم، بحيث لا يكون عليهم سلطان في أداء أعمالهم سوى لضمائرهم وللشرائع التي يعملون على تطبيقها. فلا يتعرضون في عملهم إلى رهبة أو رغبة، يمكن أن تجعل ميزان العدل يهتز في أيديهم، فيكون القاضي آمناً في حاضره، مطمئناً على مستقبله. وهذه الأمور لا تعد بذاتها ميزة شخصية للقضاة، وإنما هي عناصر ضرورية ولازمة لصالح النظام القضائي ذاته، ودعماً لكيانه وتأكيداً لسلطانه، حتى يؤدي دوره في المجتمع بإرساء العدل وإعلاء كلمة الحق وتدعيم سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات.
ولهذا، فقد استقر في ضمير ووجدان المجتمعات المتحضرة ضرورة إسباغ بعض الضمانات على رجال القضاء، بحيث اعتبر استقلال القضاء والضمانات التي يحاط بها رجاله من أهم المبادئ التي تحرص على إقرارها وتوكيدها دساتير الدول المتمدينة كافة. وإذا كان لابد من النص في الدساتير على الضمانات اللازمة لاستقلال القضاء، فإن الدساتير بطبيعتها تقتصر فقط على المبادئ الأساسية، فلا يمكن أن يتضمن الدستور النص على كل ما يتعلق باختيار القضاة ونقلهم وندبهم وإعارتهم. ومن أجل ذلك، أناط الدستور بالقانون مهمة وضع الأحكام الخاصة بنظام خدمة القضاة وبيان الجهات صاحبة القرار في هذا الشأن، مع مراعاة أن تكفل هذه القواعد الأحكام الأساسية التي ورد النص عليها في الدستور. فلا يجوز إذن أن يخضع القضاة لقانون الخدمة المدنية المطبق على غيرهم من موظفي الدولة، وإنما ينبغي أن يكون لهم قانون خاص بهم، تراعى فيه طبيعة رسالتهم، وتكفل قواعده ضمان الاستقلال اللازم لأداء أعمالهم وتمكينهم من أداءها على الوجه الأكمل.
وهكذا، تجري تشريعات الدول العربية على تخصيص قانون للسلطة القضائية. ففي جمهورية مصر العربية، على سبيل المثال، صدر قانون استقلال القضاء رقم 66 لسنة 1943م. ثم صدر بعد ذلك القانون رقم 56 لسنة 1959م في شأن السلطة القضائية. ثم استبدل بهذا القانون قانون آخر، يحمل رقم 43 لسنة 1965 في شأن السلطة القضائية. ثم ألغي هذا القانون بدوره، وحل محله القانون الساري حالياً، والذي يحمل رقم 46 لسنة 1972م بشأن السلطة القضائية. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، وبالنظر لأن المحكمة الاتحادية العليا هي أولى محاكم الدولة ظهوراً، بحيث ورد النص عليها في الدستور ذاته، فقد صدر أولاً القانون الاتحادي رقم 10 لسنة 1973م في شأن المحكمة الاتحادية العليا. وبعد عشر سنوات تقريباً، صدر القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 1983م في شأن السلطة القضائية الاتحادية. وفي الثالث من شهر أكتوبر 2022م، صدر المرسوم بقانون اتحادي رقم 32 لسنة 2022 في شأن السلطة القضائية الاتحادية، والذي حل محل القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 1983م في شأن السلطة القضائية الاتحادية.
والواقع أن قانون السلطة القضائية يعد بمثابة قانون الخدمة المدنية فيما يتعلق بأعضاء السلطة القضائية ومعاونيهم والعاملين بالمحاكم. كما يحدد هذا القانون شكل التنظيم القضائي، بحيث يمكن اعتباره بمثابة الهيكل التنظيمي لمرفق القضاء وللمحاكم على اختلاف درجاتها. فهذا القانون يتضمن – أو ينبغي أن يتضمن – الأحكام الخاصة بتدرج المحاكم وأنواعها وتشكيلها، ونظام خدمة العاملين بها. ولذلك، تحيل تشريعات السلطة القضائية عادة إلى القوانين المتعلقة بالخدمة المدنية، في كل ما لم يرد به نص في قانون السلطة القضائية. فعلى سبيل المثال، تنص المادة (136) من قانون السلطة القضائية المصري على أنه «فيما عدا ما نص عليه في هذا القانون تسري على العاملين بالمحاكم الأحكام العامة للعاملين المدنيين بالدولة. ويكون لرئيس محكمة النقض سلطات الوزير ووكيل الوزارة المنصوص عليها في القوانين واللوائح بالنسبة للعاملين بالمحكمة. ويكون للنائب العام سلطات الوزير ووكيل الوزارة المشار إليها في الفقرة السابقة بالنسبة للعاملين بالنيابة العامة». وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة (103) من المرسوم بقانون اتحادي رقم (32) لسنة 2022 في شأن السلطة القضائية الاتحادية على أنه «فيما عدا ما نص عليه هذا المرسوم بقانون، تسري على أعضاء السلطة القضائية أحكام التشريعات الخاصة بالموارد البشرية في الحكومة الاتحادية».
ومع ذلك، كثيراً ما يتضمن القانون المنظم للسلطة القضائية نصوصاً تنظم الإجراءات واجبة الإتباع أمام القضاء بجهاته المتعددة. وتلك النصوص تعد مكملة لقانون الإجراءات الجنائية، فيما لم يرد بشأنه نص فيه. ومثال ذلك النصوص المنظمة لما يجب إتباعه من إجراءات في حالات وقوع الجريمة من أحد القضاة، وضرورة الحصول على إذن بتحريك الدعوى من الجهات المنصوص عليها فيه. ولا توجد أدنى مشكلة بالنسبة لهذا النوع من الأحكام. إذ هي أحكام تخص القضاة دون غيرهم، ويكون سائغاً بالتالي أن يرد النص عليها في قانون السلطة القضائية. ولكن المشكلة تثور بالنسبة للنصوص الإجرائية العامة التي تتعلق بنظر الدعوى الجنائية أو بنظر الدعوى المدنية، والتي يكون المجال الطبيعي للنص عليها هو قانون الإجراءات الجنائية أو القانون الخاص بالإجراءات المدنية حسب الأحوال.
وسنتناول في هذه الدراسة مظاهر الخلل التشريعي في قانون السلطة القضائية، ثم نعرض بعد ذلك الإشكاليات الناجمة عن هذا الخلل، وذلك في فصلين، على النحو التالي:
الفصل الأول: الخلل التشريعي في قانون السلطة القضائية.
الفصل الثاني: إشكاليات تطبيق قانون السلطة القضائية.
زر الذهاب إلى الأعلى