قاعدة القدر المتيقن
بقلم: محمود احمد راغب المحامي
الحكم الجنائي مبني علي الجزم و اليقين لا علي مجرد الظن او الترجيح اذ ان الشك يفسر لمصلحة المتهم بأعتبار ذلك أخذاً بقرينة البراءة و دورها في الإثبات الجنائي و لذا اوجبت المادة ٣٠٤ من قانون الاجراءات الجنائية التي تنص علي اذا كانت الواقعة غير ثابتة تحكم ببراءة المتهم.
و في نطاق القضاء الجنائي تجد هذه القاعدة قبولاً واسعاً بشانها لأنه إذا كان الأصل في الإنسان البراءة فمن الطبيعي أن الشك يجب أن يستفيد منه المتهم لأن اليقين لا يزول بالشك و أنما يزول بيقين مثله او أقوى منه و لذلك فإنه يكفي لصحة الحكم بالبراءة أن يتشكك القاضي في صحة إسناد التهمة إلي المتهم.
حيث يستوجب عليه عندئذ أن يصدر حكمه بالبراءة فهذا يعني إسقاط إلادانة و العودة إلي أصل البراءة الذي يكفي للتأكيد عليها مجرد الشك في إدانة المتهم فالادانة يهزها مجرد الشك في حين أن أصل البراءة لا يهزه الشك بل هو مؤكد له و مؤد إليه و هو ما يعبر عنه بقاعدة ( تفسير الشك في صالح المتهم).
و يترتب علي هذه القاعدة انه في حال الحكم بالادانة يجب أن يبنى عن اقتناع القاضي علي اليقين من صحة أدلة الاثبات لا علي الاحتمال ولا علي اليقين الشخصي و يستوجب لذلك توافر ثلاثة شروط و هي :
١- ان يعتمد في حكمه علي الادلة القضائية و هي المطروحة امامه في الدعوى.
٢-أن تبنى الادلة علي مشروعية الدليل فلا يعتد بدليل وليد إجراء غير مشروع.
٣-أن يخضع اقتناع القاضي للعقل و المنطق.
و تسري هذه القاعدة في كافة الاجراءات الجنائية التي يتم اتخاذها في حق المتهم سواء أكانت هذه الاجراءات قبل المحاكمة او أثنائها.
و تعد مرحلة التحقيق التمهيدي مرحلة في غاية الخطورة حيث أنه يخشي فيها اتخاذ أي اجراء من الاجراءات الماسة بالحرية ضد المتهم و لذلك في حال اذا لم تتوافر الدلائل الكافية علي ارتكاب المتهم للجريمة محل الاتهام فإنه يتعين علي مأمور الضبط القضائي عدم اتخاذ أي اجراء من شأنه الاضرار و التنكيل بحقوق المتهم و يترتب علي ذلك في مرحلة التحقيق التمهيدي يجب أن يفسر لمصلحة المتهم.
و قد كان لمحكمة النقض المصرية و كذلك المحكمة الدستورية العليا موقف خلاق في صياغه هذه القاعدة و يرجع هذا الفضل الي أهمية هذه القاعدة و ارتباطها الجوهري بقرينة البراءة باعتبارها من الضمانات الدستورية الهامة التي تعد الركيزة الأساسية في الشرعية الاجرائية.
و في هذا السياق عند استقراء أحكام محكمة النقض المصرية نجد انها استقرت منذ أمد طويل علي اعتناق قاعدة تفسير الشك لصالح المتهم و قضت (بأنه يكفي في المحكمة الجنائية أن يتشكك القاضي في صحة إسناد التهمة إلي المتهم لكي يقضي بالبراءة ما دام الظاهر أنه احاط الدعوي عن بصر و بصيرة و أقام قضاءه علي اسباب تحمله)
و هكذا الحال لدى قضاء المحكمة الدستورية العليا حيث أكدت علي اهمية قرينة البراءة باعتبارها قيمة دستورية و رتبت علي ذلك قاعده تفسير الشك لصالح المتهم عند القضاء بالبراءة و ذلك في قولها بأن (أصل البراءة يدرأ وطاة العقوبة عن الفرد كلما كانت الشبهات محيطة بالجريمة بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم لها و انه لا سبيل لدحض أصل البراءة بغير الادلة التي تبلغ قوتها الاقناعية مبلغ الجزم و اليقين بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء الجريمة)